قصة (العباءة الموردة)

الكاتب/ محمد نبي زاده

ترجمة /د.عبدعلي كاظم الفتلاوي

ربطت الطفلة حذاءها سريعا”، ووضعت حقيبتها المدرسية على ظهرها بعجالة وأتجهت نحو الباب لكنها ما أن وصلت الباب حتى نادتها أمها:

– زهراء … زهراء … ماذا دهاكِ ؟ ما هذه العجالة ، هذا اليوم الأول وأنتِ تنسين الساندويج .

وبالسرعة نفسها عادت متجهة نحو أمها وأخذت الساندويج وودعتها إلا أن الساندويج سقط منها من جديد بسبب سرعتها، ودعتها الأم التي كانت تضحك من سلوك ابنتها  وعادت إلى الغرفة .

   جاء مؤخراً السيد رضا وزوجه السيدة( محبوبة) إلى محلة (كوي سرخ) ،فالسيدة (فخرية) التي هي زوجة السيد رضا قد وجدت لهما بيتاً جيداً وبسعر مناسب فأنتقل السيد رضا بدون أي تأخير إلى هذا المكان الجديد ونقل أثاثه الجديد إليه، كان السيد رضا معلماً للقرآن الكريم وكان في كل سنة مضطراً للتنقل بين هذهِ المدرسة وتلك، حتى لا يترك تلاميذ المدرسة الذين أصبحوا  أصدقائه ومحبوه والذين تعلقوا به كثيراً، الجميع كانوا  يحبونه، بدءاً من العائلة التي تزوج منها إلى الجيران والأطفال في المسجد والمدرسة … لكن في محلة (كوي سرخ ) ذات العوائل الكثيرة لا أحد يعلم بمجيء المستأجر الجديد في بيت السيدة (أقدس ) صاحبة البيت.

في اليوم الأول من شهر (تشرين الأول) كان السيد رضا على عجالة من أمره لأنه ذاهب إلى المدرسة وكان يقود كرسيه المتحرك بصعوبة بالغة، خاصة عند السياج الخارجي للبيت.

قالت السيدة محبوبة :

– يجب أن تصنع هنا جسراً هذهِ الليلة ليسهل عليك السير عليه، هل تريد أن آتي معك إلى المدرسة؟

أجاب السيد رضا الذي استطاع أن يتخلصَ من عقبة الباب بقوة :

-كلا المدرسة قريبة سأذهب وحدي.

لم تصر السيدة (محبوبة) على الذهاب معه، فهي تعرف أخلاق زوجها السيد رضا، لقد مضى على زواجهما (13) سنة وهي تعيش معه، في الواقع أنهما تزوجا سنة 1981 وحتى سنة  1987 وهي السنة التي فقد فيها السيد رضا قدماه، وحتى هذا التاريخ كان لا يرى أحدهما الآخر إلا مرة أو مرتين في كل شهر.

  وصلت زهراء إلى بداية الزقاق ورأت السيد رضا على كرسيه المتحرك لم تر زهراء مثل هذا المنظر في المحلة قبل هذا اليوم، اقتربت أثناء مسيرها شيئاً فشيئاً من الكرسي المتحرك، لم تشغل بالها في النظر في وجه رجل غريب. قال الرجل الغريب ضاحكاً:

– السلام عليك سيدتي الصغيرة !

 تسمرت قدما زهراء في الأرض. كانت تقول لها أمها دائماً أن لا تتكلم مع الغرباء أبداً. لكن هذا لم يكن تصرف رجل غريب، فعلى الأقل تجيبه فهي لا تستطيع أن تتجاهل كلامه.

ثم أردف الرجل الغريب قائلاً :

– أنظري، أي زقاق اقرب للوصول إلى مدرسة (بلال الحبشي ) ؟

أجابت زهراء بيدها دون لسانها وأشارت بإصبعها نحو الطريق الذي كانت تهرول فيه مسرعة نحو مدرستها. صادف أن نظرت زهراء إلى قدمي الرجل الغريب المقطوعتين، فأنقسم قلبها إلى نصفين، فنظرةٌ إلى وجه الرجل الغريب الذي مازالت البسمة مرتسمة على شفتيه، ونظرةٌ إلى قدميه المبتورتين، وتجرأت وقالت:

– سأمشي ببطء من هنا ويمكنك متابعتي.

– كلا فأنت بهذهِ العجالة ، لابد وأن جرس درسكِ قد دق. اذهبي، وأنا سوف آتي خلفك عبر هذا الزقاق.

ضحكت زهراء :

– كلا مازال عندي نصف ساعة أخرى حتى يدق الجرس.

-لا بأس، إذن امضي ببطء وأنا سوف أتبعكِ.

لم تمض دقائق على مسيرهما حتى ارتفع صوت الرجل الغريب من جديد:

– سيدتي زهراء ! لم تقولي لي في أي صف أنتِ؟

توقفت الطفلة مرة واحدة وساورها الشك، ”من أين يعرف اسمي“ ازدادت المسافة بينها وبين الرجل الغريب، ضحك السيد رضا وقال:

– لا تخافي … صحيح أنكِ لا تعرفيني ولكن هذا لا يعني أني لا اعرف اسمك. نحن وصلنا للمحلة قبل 5-6 أيام ولا يمكنني أن أتعرف على كل سكان المحلة، لكن الحظ الذي جلبني إلى هذا الزقاق الذي فيه سيدة جميلة وصغيرة مثلك، والا كان من الممكن أن لا أعرفكِ أنتِ أيضاً.

انشغل قلب زهراء من جديد وهي ترى نهاية الزقاق:

– هل تريد أن أوصلكَ حتى باب المدرسة؟

-كلا …كلا هنا يكفي … قد أتعبتك معي. أعتقد أن ذلك الجانب من الشارع فيه كثير من التلاميذ وهم ذاهبون إلى المدرسة يعني المكان نفسه الذي أنوي الذهاب إليه، أنا ممتن لك كثيراً لأنك أرشدتيني إلى الطريق وهذا هو أول أيام الدراسة وأنت طبعاً تريدين أن تري صديقاتك وزميلاتك، اذهبي سريعاً كي لا تتأخري، إلى اللقاء ويحفظك الله. ودعته زهراء وبدأت بالهرولة، لكنها نظرت إلى الخلف فرأت الرجل يقود كرسيه المتحرك ببطء، قالت في نفسها ((لابد أن يكون وزنه خفيف حتى يستطيع أن يقود كرسيه حتى هذه المسافة لابد أن أسأل أمي عن وزن الإنسان بدون القدمين …))

      أنشغلت زهراء كثيراً باللعب مع صديقاتها إلى درجة أنها نسيت لقاءها مع الرجل الغريب تماماً، وفي اليوم التالي وبينما كانت مسرعة نحو مدرستها في الزقاق ذاته… لم تتذكر إنها التقت بالرجل الغريب في ذلك المكان الذي رأته فيه سابقاً في اليوم الماضي وعندما وصلت إلى المكان توقفت مرة واحدة… فقد وجدت الرجل الغريب نفسه وفي المكان نفسه وفي يده صندوق ورقي مغلف من الأعلى بشريط جميل قائلاً:

– سيدتي زهراء ! تعالي هنا لحظة من فضلك؟ لدي عمل معك!

اتجهت زهراء نحو الرجل بدون تردد.

– حسنٌ سيدتي زهراء! بما أنك ساعدتني يوم أمس بإرشادك إياي فقد أصبح لك دين في رقبتي وعلى هذا من الواجب علي أن أرد هذا الجميل لكِ. وحسب علمي أنك في الصف الثالث. وعليه فقد اشتريت لك هدية مناسبة وأتمنى أن تعجبك.

امتنعت زهراء من أخذ الهدية:

– لا شكراً جزيلا …

– كلا لابد أن تأخذيها كوني مطمئنة، فأسم زوجتي (محبوبة) قولي لأمك ذلك فهي تعرفها وعليه فلن تقول لك أو تسألك لماذا تأخذين شيئاً من الغرباء.

قبلت زهراء الهدية بخجل شديد، فتحت حقيبتها ووضعتها فيها:

– اذن لابد أن أوصلك إلى المدرسة.

– كلا كلا فيوم أمس كان اليوم الأول أما اليوم فقد عرفت الطريق المؤدي إلى هناك وأستطيع الذهاب وحدي … لن أتعبك من جديد، اذهبي إلى مدرستك فأن صديقاتك بأنتظارك.

 وبهذا الجدال لم تستطع زهراء أن تغير رأي الرجل:

– اذن إلى اللقاء.

ضحك السيد رضا وأخذ ينظر إلى زهراء وهي ذاهبة إلى مدرستها.

لم تتحمل زهراء الانتظار. فهي تجد الآن زاوية معزولة بعيدة عن عيون التلاميذ. فتحت زهراء العلبة فكان فيها عباءة بيضاء موردة.

مضت عشر دقائق من وصول زهراء الزقاق ولكن لا خبر عن الرجل الغريب. كان يذهب إلى المدرسة في مثل هذا اليوم، بدأت خطوات زهراء بالتباطؤ في ذهابها إلى المدرسة، كانت زهراء قد أحست في الأيام الماضية بشعور غريب تجاه ذلك الرجل الغريب، فهي وجدت أخيراً العم المناسب لها، فمنذ وفاة والدها قبل ثلاث سنوات لم تفتح قلبها لرجل قط. أما الآن فهي تعرف السيد رضا حق المعرفة.

دق جرس الدرس الأخير جمعت كتبها في حقيبتها سريعاً سريعاً واتخذت طريقها على العجالة نحو بيتها. وصلت إلى رأس الزقاق، ماذا يفعل كل هذا الجمع في هذا الزقاق؟

أوراق ذات حاشية خضراء معلقة على الجدار… وضجة… وأحدهم يحتضن الآخر بمرارة.

(أنا لله وأنا إليه راجعون …)

صورة رجل على رقبته منديل … كان مألوفاً جداً عند زهراء

”أنتقل الى رحمة الله تعالى السيد رضا كريمي بعد 13 سنة من المعاناة وسيكون التشييع في تمام الساعة ……….“

اسودت الدنيا في عينيّ زهراء …

اغرورقت عيناها بالدموع ونظرت ثانية نحو الصورة … هو بعينه ذلك الرجل الغريب …

أصبحت مقبرة (جنة الزهراء) مزدحمة بالناس. لم يبق أحدٌ في المقبرة الآن لا يعرف من هو السيد رضا، الأطفال بين سن 10 – 12 سنة وحتى 20 سنة كانوا ينتشرون هنا وهناك وهم يلبسون قيافة الحزن ويعرف كل من رآهم مدى حزنهم على شخص عزيز عليهم قد فقدوه. تجمعت عديدٌ من النساء حول القبر وكن يصحن ويبكين بصوت عال، ولكن حتى انتهاء مراسم العزاء وتفرق الناس لم يكن أحد يعرف من تكون تلك البنت ذات العباءة البيضاء الموردة الجالسة قرب القبر وتسكب دمعها بهدوء…  

[1] العباءة الموردة أو المشجرة هي العباءة الإيرانية المعروفة ذات النقوش النباتية، القصة منشورة في مجلة (تلاش) الايرانية العدد 69.