رقصة الموت

بزرگ علوی

ترجمة د. عبدعلي كاظم الفتلاوي

       أخذوه البارحة صباحا. مضى يومان منذ أن أخذوه. منذ البارحة لحد الآن يصدح فی آذني صوت أغنية (dance macabre) . مرتضى يأخذ بيد رجبعلي رجبوف، يخرج نصف الليل من قبره. جثة أخرى تعزف بعظم ذراع فتاة على جمجمة شاب أنغاما مرعبة ل(رقصة الموت)، القبور تفتح أفواهها، تخرج الهياكل من القبور و ينشدون جميعا نشيد الموت و يضربون بأقدامهم الأرض. ماركريتا بوجهها الحزين لكنها حية تتأمل تريد فقط أن تُخرج مرتضى من هذه الرقصة الجماعية.

    أخذوه البارحة. أخذوه من بيننا. شخص كنّا معه ليل نهار طوال ثلاثة أشهر، تناولنا الطعام معاً، شخص طالما تشاجرنا معه ثم تصالحنا، شخص أهنّاه ثم أعتذرنا منه، شخص كان يبكي كثيراً، شخص أضحكنا كثيراً، شخص كان شريكنا في الشدائد، وفي القنوط أملنا، أنه السجين الذي أخذوه من بيننا ولم يخبرونا إلى أين أخذوه، لكني أعلم جيداً إلى أين أخذوه. أخذوه ليقتلوه. كان محكوماً بالموت.

     مرتضى وليس غيره، مرتضى يشترك في رقصة الموتى حتى صياح ديك الصباح، ينحب في المقبرة. الساعة الأخيرة كان حُراً، يتجسد أمام عيني. أراه جيداً، أسمع صوته وهو ينادي: “ماركريتا، ماركريتا. لا تخبري أحداً! أي أحد.”

    في السنوات التي قضيتها في السجن – بل لم يكن سجنا، كان قبراً– في السنوات التي قضيتها في القبر رأيت كثيراً ممن عشقهم الموت، رأيتهم عند

صدور حكم المحكمة كيف يُخطف لونهم، كيف لا تقوى أرجلهم على حملهم، كأنما تخرج أرواحهم من أبدانهم، لكن هذا الحال لا يستمر لأكثر من ثانية واحدة، ثم يسري الأمل في أبدانهم من جديد. الأمل ضد الحكم، الأمل في العفو العام، الأمل في أن تتكاتف الدنيا لإنقاذهم، الأمل في معجزة، ليس فقط أملاً بل إيمان بالجهلة و تصورهم بأن يصدر الملك عفواً عنهم.

  رأيت محكومين بالإعدام ماتوا ليلة تنفيذ الحكم، رأيت محكومين بالإعدام قبل تنفيذ إطلاق النار عليهم كانوا قد حلقوا لحاهم ولبسوا أبهى الملابس وودعوا أحبابهم وأصدقائهم وذهبوا إلى الموت بكل رجولة وشجاعة.

رأيت محكومين بالإعدام يصرخون عند الموت “يعيش الوطن”. أعرف محكوما بالإعدام ينشد النشيد المعروف ” أنهض أيها المظلوم، من عالم الجوعى والعراة” بعد مدة من إطلاق الرصاص عليه.

   لكن لم أعرف أحدا منهم بهذا القرب. لم أعرف أحدا منهم أخذوه من بيننا، كأنما يختارون خروفا من وسط قطيع ليأخذوه إلى المقصلة.

      نادوه البارحة في الساعة السابعة والنصف صباحا. نفسه ذلك الرجل العجوز المُنظف نادى باسمه، صوت أخّن ينادي بصوت عال: ” مرتضى ابن جواد، تعال يا سيد”، هذا مرتضى ابن جواد كان معشوق ماركريتا ذات التسعة عشر عاماً يأخذوه إلى الحبس الانفرادي، يمنحوه رخصة الخروج، يريدون أن يجلدوه، يريدون أن يعنفوه، يعفون عنه، ينفوه إلى مكان بعيد، يشنقوه بالحبل أو رميا بالرصاص. لم يختلف الأمر لديه، هو فقط نادى: ” مرتضى ابن جواد! تعال يا سيد” و فوراً بعد هذا الصوت يردد آخرون بعده من جملتهم عمال النظافة والحارس كلهم نادوا :” مرتضى ابن جواد “.

  تقطّع قلبي لحاله . بعضهم بدأ بجمع أغراضه.

بعد عدة ثوان يسألنا :” مع أغراضي؟”

عند ذلك أجابوه : ” لا، إلى المحكمة.”

كان يذهب ليموت. حتماً سيشنقونه. ربما تنتظره ماركريتا أمام باب السجن و سيرى أحدهما الآخر للمرة الأخيرة قبل الموت، حتما سيخبرها ثانية أمام باب السجن: ” ماركريتا، ماركريتا لا تخبري أحد ! أي أحد.”

    مرتضى لم يأخذوه الى المحكمة، أنهم يكذبون، لا يقولون لأي محكوم قبل ساعة موته نحن نأخذك للإعدام. يدارونه بالكذب.

     عندما خرج من القاعة. عاد إلينا و قال:” الجو ممطر، ليعطني أحدكم قبعته” بادر الكثيرون بإعطائه قبعاتهم، لكنه اخذ قبعتي.

     كان إنسانا بسيطا!  كل من حكموا بالموت كانوا بسطاء. من الصعب أن يتصور الإنسان إن هذا الجسد بهذا التركيب بهذا البناء، بهذا الفكر، بهذا الحب و العشق لماركريتا،… سيتلاشى كل شيء ، ويصبح رمادا في مهب الريح ، لن يبقى منه شيء… ما أصعب هذا.

    كان يريد أن يذهب ليموت، كان يخشى أن يبلل المطر رأسه، ربما كان يخدع نفسه أيضا. ربما كان لا يأبَه بالموت. عندما يأخذون أحدهم للإعدام عادة يقولون “مع أغراضه” عندها يأخذون منه فراشه وملابس السجن والسرير. يسلمها إلى مكتب السجن. إذا كانت لديه عائلة فهي التي تستلمها، أما إذا لَم تكن لديه عائلة لا نعلم ماذا سيحدث.

   لكنه لم يأخذوه مع أغراضه، أنه بصيصٌ من أملٍ يشع في أرواحنا، ربما لا يأخذوه للإعدام، هل من الممكن أن لا يأخذوه للإعدام؟

      لازال صوته يتردد في مسامعي، : ” ماركريتا، ماركريتا لا تخبري أحدا ! أي أحد.”

    ربما لم تخبر ماركريتا أحدا؟ هل ذلك ممكنا؟ في هذه الحالة من الأفضل أن يكون مرتضى قد مات، لكن لا، هذا الأمر ليس صحيحا. مرتضى كان البارحة منتصف الليل مع الموتى يشاركهم رقصة الموت. كان يأخذ بيد رجبعلي رجبوف، كانوا يرقصون بكل حرية. أصوات هذه الرقصة المرعبة “رقصة الموت” جعلت جسمي يرتعش.

إني أرى رقص الهياكل أمام عيني…

    لقد قرأت حُكمهُ بنفسي:” مرتضى ف . ابن جواد، و بتهمة القتل المتعمد لرجبعلي رجب زاده ابن الحاج رجب بادكوبه، الساكن في طهران، …” و بعد عدة جمل لا أذكرها، يكمل الحكم بالتالي.” طبقا للتقارير الأمنية و التحقيقات الواردة إلينا في ملفه واعتراف المتهم الصريح بالجريمة في المحكمة و نظراً لثبوت ذلك لدى المحكمة ” ثم تأتي بعد ذلك عدة جمل و أخيراً يختمها بما يأتي ” استنادا للمادة كذا لقانون العقوبات العام يحكم بالإعدام…”.

    قرأ الحكم بدم بارد، بل على العكس كأن كل القلق الذي كان عندهُ قد ذهب. لأن الحكم لا استئناف فيه.

   بعد كل هذا هل يمكن أن يبقى حياً؟ أيمكن أن لا يعدموه؟ لقد أخذوه البارحة صباحا. ربما أعطوا جثته إلى ماركريتا. ماذا تفعل بجثة حبيبها؟ ليس لديه أحد آخر في طهران. هو أمر سهل جداً للشرطة. سيتصلون بماركريتا: ” لقد نقلنا جثة حبيبك إلى مرقد سيد عبد الله، إن أردتِ فخذيه أنتِ وادفنيه”.

   هل يشك أحدهم الآن؟ لقد أخذوه ليعدموه. لقد احتدم فيما بيننا النقاش في هذا الموضوع. لم يكن لدي أدنى شك بأن مرتضى رحل عنا، إلا إذا … إلا إذا كانت في انتظاره حياةٌ أسوء من الموت. حينذاك تمنيت أنه لو مات وكان نسياً منسياً.

عندما أبلغوه في السجن بحكم المحكمة، لم يعترض، يعني أنه لم يستأنف الحكم، عندها كان الحوار الأول بيننا:

  • لماذا لم تستأنف الحكم؟
  • ماذا أستأنف؟
  • الحكم الذي صدر بحقك. عجبا! ألا تفهم … أنك حُكمت بالإعدام؟

كأنه لم يفهم خطورة الحكم الصادر بحقه.

كنا واحداً وعشرين شخصا في الغرفة الثالثة العنبر رقم ستة و كنت أنا الوحيد من بيننا متهما بتهمة سياسية، لقد جلبوني إلى هنا عن طريق الخطأ. في الحقيقة عندما كنت في سجن القصر تشاجرت مع أحد “أصحاب المقام العالي” عندها نقلوني إلى السجن الانفرادي وقضيت أكثر من ستة أشهر في الغرف الأنفرادية في العنبر رقم اثنين لكن عندما ازداد عدد المعتقلين السياسيين وأصبح المكان ضيقاً لا يسعنا، كان ذلك سببا في نقلي إلى العنبر رقم ستة. هنا في غرف مختلسي أموال الدولة، المرتشين، النصابين و أحيانا القتلة.

في الليل يُجبر الجميع على النوم في تمام الساعة التاسعة. أنا اُخرج كتابي خلسة. أعطي مسؤول باب السجن قدحا من الشاي حتى لا يفشي أسرارنا، عندها أبدأ بقراءة كتابي بدون أي إزعاج، وعندما يأتي المدير أو المسؤول، يبلغني الحارس فوراً بذلك.

في تلك الليلة التي صدر فيها حكم الإعدام بحق مرتضى، رأيت عينيه لم تغمضا أبداً، كنت أعلم أنه يجيد الفرنسية لذلك قسّمت كتابي إلى جزئين، أعطيته الأول منه، لقد أخذه مني بكل لهفة واشتياق، بعدها أصبحنا أصدقاء. عندما أبلغوه حكم المحكمة كتب أسفله: ” اطلعت”.

لقد دُهشنا جميعاً. فقد سمعنا من الحارس الذي كان قد أخذه للمحكمة أنه لا يوجد أي دليل لإدانة مرتضى سوى اعترافه الصريح: ” لقد قتلته!”

كان قد قال، لقد قتلت رجبعلي رجبوف.

لقد سألته للمرة الثانية والثالثة وألححتُ عليه بالسؤال: “لماذا لا تعترض على الحكم، لِمَ لا تستأنف الحكم؟”

أجابني: ” وما الفائدة؟”

  • ما الفائدة؟! … يجب أن تثبت براءتك، حتى لا يعدموك.
  • لقد أجرمتُ و يجب أن أُعدم .
  • ماذا اقترفتَ؟
  • قتلتُ إنسانا.
  • أنت؟

     على الرغم من إني كنت مضطرباً ومرتبكا إلا أن برودة دمه لم تستطع أن تؤثر فيَّ مطلقا. لكن وكما توقعت وسمعت من هذا وذاك، لم أتمكن إلا أن أبوح له بما يجول في خاطري: ” أنا لا أصدق مطلقا بأنك قاتل، لا يبدو عليك ذلك، صحيح انك قوي البنية، لكن لا يوجد دليل على أنك قمت بذلك العمل، ولو لم تعترف لما حكموا عليك بالإعدام أصلاً.”

  • أنا إنسان قاتل.

كنت على وشك أن افقد أعصابي. لقد أثارني بعدم ثقته بي.

  • اسمع يا رفيقي، أنا من السجناء السياسيين، لقد قضيت في السجن لحد الآن أربع سنوات وبضع بل أكثر من أربع سنوات ونصف. يمكنك أن تثق بي، ربما اعترفتَ بالقتل تحت ضغط أحدهم، لقد رأيتُ كثيراً من السجناء كانوا ضحية أفعال الآخرين، ما أكثر المظلومين في السجون. أحيانا يخفي الإنسان أسراراً يصعب عليه البوح بها. يجب أن تخبرني بكل ما يجول في خاطرك، فإذا قررت أن تموت وترى في الموت نجاتك فهناك طرق أخرى للموت بهدوء، أو ربما نجد حلاً لمشكلتك لديك المزيد من الوقت من اليوم حتى عشرة أيام، ربما نجد حلاً، أنت لا تزال شابا يافعا، لِمَ التفكير في الموت. فكّر في زوجتك إذا كانت لديك زوجة، فكر فيمن يحبك، لا قيمة لحياتهم بعدك، حتما أنت لستَ مقطوعا من شجرة، الم يأتِ أحدهم لملاقاتك؟ … لكنهم يبعثون لك بالمأكل والملبس.

أدركت إن هنالك امرأة في حياته هي سبب بؤسه، ربما كان حدسي في محله. لقد رأيت كثيراً من القتلة. أكثرهم من الفلاحين الذين يقتتلون على ساقية الماء أو نتيجة دسيسة مُلاّك الأرض مع فلاحي الأرض الأخرى بالنتيجة يذهب أحدهم ضحية العراك. أو أناس يقتتلون تنافسا على امرأة. أما القسم الثالث منهم أولائك الذين جاءوا إلى السجن بعمر الخامسة أو السادسة

وتعلموا في السجن أساليب السرقة والنصب وبعد أن يتعدى عمرهم الخامسة عشر و بعد سنين من التشرد و الجريمة يذهبون بسلاحهم للسرقة فيقتلون الآخرين بدم بارد. هذه المجموعة التي تسمى “القتلة بالذات”، هي نفس المجموعة التي يربيها المجتمع لغرض السرقة و الجريمة!

لقد توقعت أن تكون في حياة مرتضى امرأة لها الأثر البالغ في رسم حياته، لقد سمعت باسم هذه المرأة من الحارس الذي كان برفقته إلى المحكمة هو نفس الاسم الذي كان يرسل الملبس والمأكل الذي يُرسَل إلى مكتب السجن ويحول إلينا، كان اسمها “ماركريتا”، لقد أصبتُ كبد الحقيقة.

  • لنفرض أنك إنسان قاتل، لديك ذكريات مع امرأة ما، أليس كذلك؟
  • و ما الفائدة من الخوض في هذا الحديث؟
  • الفائدة أنك ستبقى حيا ويمكنك أن تعيش حياة سعيدة.

كان يريد التملص من الجواب، لكني لست الشخص الذي يهزم بسهولة.

  • إذا كانت تلك المرأة لا تحبك، فلماذا تختارُ الموت؟ لأجل امرأة لا تعرف قيمة حبك وإخلاصك، لماذا تريد أن تموت؟
  • آه ليس كما تقول، أنت لا تعلم ماذا تفعل هذه الكلمات، إنها تحرق قلبي.
  • إذن فهي تحبك؟ فلماذا يجب أن تموت؟ فمن الباب إلى المحراب فرجا.
  • ليس لي أملٌ في الحياة.
  • لماذا؟ ربما يمكنك نقض الحكم. ربما تُشكل محكمة أخرى. ربما أنت لم تقتل أصلا، يمكنك أن تثبت بأنك لست القاتل، ربما أنت تعرف القاتل الحقيقي. أنت غير مجبر أن تفشي باسمه، إذا لم ترغب بذلك على الأقل تحكم بالمؤبد. من يعلم ماذا سيحدث غدا؟ ربما يعفى عنك. يوجد ألف ربما و ربما…

قطع كلامي قائلا:” لا هذا ولا ذاك، لقد تعبت من هذه الحياة الرتيبة،

هذه الحياة التي عشتها كانت موتا بطيئا. الحكم بالموت عليَّ هو حكم بالحرية من ذلك التشرد الذي لا طاقة لأحد على تحمله. الحياة بالنسبة لي غير ميسرة. لا أمل في أن تتطور حياتي البائسة.”

  • هذا كلام غير صحيح، الدنيا في تطور مستمر، تجاهلْ هذه الدنيا المستبدة المتوحشة فالفرج قادم لا محالة. ما كان عملك؟ وكيف ساءت الأمور لديك؟
  • كنتُ مدرسا.

وبهذه الطريقة استطعت أن استدرجه في الكلام.

كان قويا طموحا لا يُشق له غبار. صحيح البدن، يكاد الدم يخرج من وجنتيه، كان قد قُتل أبوه في الثورة الدستورية. أخته متزوجة في مدينة أخرى، هو يعيش في منزل أبيه، ينفق لدراسته مما  قد تركه والداه. وأخيراً كان يدّرسُ في اعداديات العاصمة. كان يمضي جُلّ وقته في قراءة الكتب. كان يحب الكتب حباً جما. لأنه كان انعزاليا لا يحب مجالس الحديث والحوار مع الآخرين. لذلك كان يستمتع في قراءة الكتب أيما استمتاع. أكبر لذته في القراءة ومشاهدة الأفلام والاستماع للراديو. كما كان يعشق ديستوفسكي الكاتب الروسي، فبمجرد أن يقرأ كتبه المترجمة تنتابه الرغبة في تعلم اللغة الروسية، كان يجيد الفرنسية بطلاقة، تعلم شيئا قليلا من الروسية وكان يُرى قليلا في مقاهي العاصمة، يلعب مع الآخرين الشطرنج. لقد أدمن السينما والموسيقى الغربية، كان لديه راديو في المنزل، كان له أنسه في وحدته، إلى الحد الذي أصبح فيه غنىً عن معاشرة الناس خارج البيت. كان يتقاضى حوالي مئة وخمسين تومانا راتبا عن دوامه في المدرسة. إضافة إلى ثلاث مئة تومان عن المُلك والذي يقسّم ما بينه و بين أبناء عمه وأخته، حياته كانت هادئة، رتيبة خالية من المشاكل، لم يكن طالبا للجاه والشهرة، لم يعكّر صفوه التفكير في أن يكون وزيراً في يوم من الأيام، بالعكس كان ينظر بالتحقير لمن يرغب في هذه الأمور.

وأخته كانت تكبره بعدة سنوات وكانت ترغب في تزويجه

لتبعد جو الرتابة والملل عن حياته. ليصبح أسير الزوجة والأبناء، أسير مأكل وملبس العائلة، التفكير في زيادة الرواتب، تأمين الحياة الهادئة للعائلة، كل هذا يقيد الإنسان، ويرميه في إعصارٍ يجب أن يعبرهُ وبيده العصا، أنه البحر… ربما يقود الإنسان للغرق فيه، لا يعلم الإنسان نفسه ما هو طريق حياته. كان البحر يحب الإعصار، لكنه كان هادئا في الساحل… أحيانا عندما يكون وحيدا وهو أغلب الأحيان كذلك، يخرجُ من هذه الدوامة بقراءة كتاب أو الذهاب إلى السينما أو سماع الموسيقى أو ينصت إلى آلام الآخرين وسوء حظهم. كل هذا يبعث في نفسه الهيجان والمتعة، الى درجة أنه قد يندم عن فعل اقترفه بفعل هذا الهيجان، عندها يعود ثانية إلى حياة الرتابة والركود والملل، حياتهُ المعتادة. احتاجُ إلى كرسي في زاوية الغرفة، حساب الكهرباء ارتفع هذا الشهر. يفضل أن يعطي قرضا بدل أن يشتري سجّادة جديدة … يجني بعض الأرباح من تسليف ماله… على أية حال مبلغ يعينه في حياته…

قال لي: ” كنت أركب عربة يجرها البغل تنقلني من مكان لآخر، بالنتيجة توصلني إلى بيتي، لكن عندما يصبح الحيوان جموحا في أغلب الأحيان يوشك أن يرميني أرضا خارج الطريق ويحصل ذلك أحيانا.”

هذه الحياة الرتيبة المملة اتخذت منحى آخر.

Ll faut chercher la femme

مفتاحُ سر شفرة حياة الرجال بيدِ النساء.

كان اسمها ماركريتا.

لقد قرأت هذا الاسم في دفتر مواجهات السجناء. يحق لنا أن نستلم أسبوعياً خمسة عشر ريال. يمكن لذوينا أن يرسلوا المال باسمنا أسبوعيا إلى مكتب السجن لنستلمه نحن بدورنا. وعلى وفق ذلك يُمنح وصل بإسم السجين. يعطونا هذه الوصولات ويدوَّن في دفتر السجن اسم المستلم ثم نوقع نحن السجناء على استلام المبلغ.

كُتب على وصل مرتضى مقابل العبارات المطبوعة ” الاسم واللقب وعنوان الدافع للمبلغ: “السيدة ماركريتا”.

في البدء كلما أسأله:” من هي ماركريتا؟”

كان يقول :” لا أعرفها.”

لكن ماركريتا كانت تأتي دائما جالبة له المأكل والملبس والمال. كانت نوعية الطعام تدل على إنها سيدة ذات ذوق رفيع. أرسلت إليه ذات مرة سروالاً مكتوباً عليه باللغة اللاتينية MF. كان مرتضى ف. يستطيع أن يجلس لساعات ويستمتع بترتيب ملابسه ومناديله المكوية. لو تأمل أحدنا عينيّ مرتضى قليلا لرأى لمعةَ دمعٍ تدور فيهما. كانت ذات ذوقٍ راقٍ، تضع الورد في طيات الملابس. مع أن مسؤولي السجن كانوا يخرجون الحلوى من العلب بكل همجية ووحشية، برغم كل هذا فالحلوى كانت تصل إلى مرتضى، كان يشعر و لحد الساعة أن هنالك امرأة وفية ومخلصة تنتظره في الخارج …

” ماركريتا لا تخبري أحدا، أي أحد…”

لازال هذا الصوت يرن في أذني.

ربما عندما أرادوا أن يأخذوه صباح اليوم ويشنقوه، رأى أحدهما الآخر أمام باب السجن، ربما يتصلون عصر اليوم بماركريتا: ” تعالي خذي جنازة حبيبك.”

لقد تعرف مرتضى على هذه الفتاة (ماركريتا) عن طريق رجبوف. عندما أسأل مرتضى عن رجبوف، و مع كل ما لمرتضى من برودة دم وهدوء وعدم رغبته بالحديث يستغرب كثيراً كأني أكلم شخصا لا أعرفه، عينيه تحدق كثيرا، يحمر وجهه، شفتاه ترتجفان، يحرك يديه في الهواء كثيرا، كلماته مرتجفة وغير مترابطة لدرجة أنه يتأتأ في كلامه

كان يصفه كالآتي :” كان رجبوف من الذين يشربون الخمر في الحانات وفي كأس كبير وكان يوصي بالكباب المشوي والفجل ويعلف ما يصله من الطعام و يشرب الخمر ويستمتع بذلك أيما استمتاع. كان يصب الخمر في وعاء كبير حتى لا يفهم الناس ماذا يشرب، لأنهم كانوا مسلمين، ولا يريد أن تتغير نظرة الناس إليه وتتأثر شخصيته أمام المجتمع.”

   يصفه أيضا: ” كان رجبوف يخالف بعض الناس، وكان يؤيد البعض الآخر دائما. تلك المجموعة التي ليس له مصلحة معها ولا يمكن أن يؤذوه في يوم من الأيام، لذلك كان يخالفهم دائما، بينما كان يؤيد المجموعة الأخرى ليس لشيء إلا لغاية في نفسه على أية حال فأن رجبوف كان كسائر الناس.”

” كان دائما يؤيد والد ماركريتا الذي كان يعدّهُ من أصدقائه، في ذات مرة كنّا في دعوة شراب في بيت ماركريتا وكان قميص ماركريتا قد اتسخ ببقعة طين من الخلف وبقي أثرها بعد الغسل وكان قميصاً جميلاً لقد أعجبني كثيراً، وكانت هي تحبه أيضاً، وأغلب الأحيان كانت تلبسه مع وجود تلك البقعة. في مرة رأى رجبوف تلك البقعة في القميص، فسألها: ” لماذا قميصك متسخ هكذا؟” التفتت ماركريتا إلى والدها وقالت: ” بابا هل رأيت؟ قلت لي إن البقعة قد اختفت، أرأيت لم تختف.” ألتفت أبوها إلى رجبوف وقال:” كيف ترى البقعة؟” فأجابه رجبوف:” بقعة؟… أية بقعة؟… لنرى … كلا ، لا أرى أي شيء ، أصلا لا يوجد أي شيء يمكن رؤيته. ” ومنذ ذلك اليوم عرفت أي إنسان هو!.”

  تعرّف مرتضى بماركريتا عن طريق رجبوف، كان مرتضى يريد أن يتعلم الروسية وكان يبحث عن مدرس يعلمه اللغة. أحد معارف مرتضى عرّفه على رجبوف الذي كان يجيد الروسية، لكي يجد له شخصا ما يجيد اللغة الروسية ليعلمه. وبعد مدة من الزمن قال له رجبوف: ” حسنا، بما أنك رجل صالح وعفيف ومن عائلة معروفة و جيدة، أحببت أن أسدي لك معروفا، عندي صديق أحبه وأحترمه كثيراً، لديه بنت تجيد اللغة الروسية. إذا أحببت أن تعلمها اللغة الفرنسية وهي بدورها ستعلمك اللغة الروسية.”

كان مرتضى إنساناً خجولاً، لذلك لم يستطع أن يقبل بهذا الاقتراح، أجابه: ” شكراً جزيلاً، لكني أرغب في أن يكون المدرس رجلاً وليس امرأة ليدرسني مقابل مبلغ أدفعه له، أنا أخشى أن أقصّر في واجبي تجاهها.”

  • كما تحب. لكن اِعلم انك سوف تتعلم أفضل هكذا، و أنصحك بقبول اقتراحي هذا فإذا وجدت الأمر غير ملائم لك سأسعى حينها لأجد لك شخصا آخر يعلمك الروسية، لا تتردد في اتخاذ القرار، فهم عائلة جيدة وطيبة، ولن تندم في اتخاذ قرارك. الآنسة ماركريتا فتاة ذكية وتجيد الروسية بطلاقة، إضافة لكونها ترغب بأن تتعلم الفرنسية بشغفٍ كبير. إنها عائلة رائعة.

لم يجبه مرتضى جواباً نهائياً. و بعد إصرار وإلحاح من رجبوف، استشف من مرتضى قبوله النفسي للموضوع.

  • سأكون هناك ظهراً، عندما ينتهي عملك في المدرسة أرجو أن تأتي فوراً إلى هناك.

 بعد عدة دقائق من انتهاء الدوام في المدرسة توجه مرتضى إلى هناك.

2

    لقد كان لقائه الأول بماركريتا، كان مرتضى رفيق سجني المؤقت يولي أهمية كبيرة لذلك اللقاء الذي أخرجه من حياة الركود و الملل و الروتين وبذلك اللقاء أصبحت للحياة معنى وطعم جديد. كان قد صاح بها في آخر لقاء بينهما: ” ماركريتا، ماركريتا، لا تخبري أحدا، أي أحد…”. ربما لم يكن اللقاء الأخير بينهما، ربما عندما خرج البارحة من السجن، عند باب السجن، في ذلك المكان الذي تقف فيه العربات والحراس يقتادون السجناء وهيهات أن يتكلم إليهم أحد، ربما عند باب السجن رأى أحدهم الآخر، ربما رأته ماركريتا فجأة وهو محمول على النعش…. لا يمكننا الحديث عن ذلك اللقاء الأخير. لكن لقائه الأول فهو الذي يصفه لنا، كل الأحاسيس الجميلة، ارتباكه وضربات قلبه الفتي، لقد حدثني بكل ذلك.

    ليتني كنت أستطيع أن اكرر كل ما حدّثني به، ربما أحدث فيّ ذلك الشعور نفسه، ليكن معلوما كيف تصنع هذه الحياة بمصائبها وآلامها كيف تصنع الشاعر والفنان. كان مرتضى إنسانا بسيطا، لكن الحياة صنعت منه شاعراً. لا فرق بين السارق العفن الذي ينام على الأرض عند قدميّ يشخر بصوت عال، وهذا مرتضى ف.  أيضا يُحكم بالموت ولن يبقى بيننا. وهذه ماركريتا التي ترزح تحت جبل من الألم والعذاب ولا تنبس ببنت شفة. أما أنا في منتصف هذا الليل أُدون هذه الأمور خلسة، خشية أن يأتي أحدهم كنا نخشى كل شيء ضربات أقدام القادمين إلى باب الزنزانة نخشى صوت تضارب المفاتيح في باب السجن نخشى المجهول القادم من باب السجن … العذاب… الإهانة… الموت؟ لم يعد يهمنا شيء تحملنا ما فيه الكفاية من التعذيب داخل السجن ولعدة شهور، كنا مجبورين على أن نصك أسناننا من شدة الألم، نصرخ بكل ما لدينا من صوت، إنها دمائنا التي تخرج من أكبادنا، أرواحنا التي تخرج في كل مرة مئات المرات، لكن الموضوع أن آلامنا وأفراحنا يمكن أن نعبّرها بأي أسلوب نحن نرتضيه بيد إن تحمل الألم من الأفضل أن يكون من أجل الآخرين.

   فكرت أحياناً بأني كنت أطالع القمر من خلف القضبان، كنت أتأمله من خلف الأعمدة الحديدية عندما أرى أن ذلك السارق الذي يشخر في منامه ويخرج منه الهواء العفن وينتشر في كل مكان، بكل تلك الأموال التي اختلسها من قوت الشعب والفقراء الكادحين في البلد، قد يخلى عن سبيله في أي وقت أو يخرج في عفو عام، وأنا ما أزال أرزح في هذا السجن الملعون وهذه الرائحة العفنة وهذه الأصوات … أصوات الأقدام القادمة وأصوات خشخشة المفاتيح وضربات حراس السجن وإهاناتهم وشتائمهم اللاأخلاقية وثم النفي إلى مكان آخر. حينذاك كان طبيعياُ تأثير dance macabre  في مرتضى، ولو إنها كلمات غير ناضجة وغير رومانسية، كان لها التأثير الناري و الحاد فيّ أنا أكثر كما كان لمرتضى آنذاك. آآآآه أنا أعشق الموتى أنا أعبدهم. مرتضى يوضح ذلك أفضل مني:

“لم يمض أكثر من ربع ساعة حتى أستقلت عربة الحصان، وأوصلتني إلى بيتهم.

كان بيتهم في شارع نادري. عندما تدخل فناء المنزل على الناحية اليسرى ممر ذو سلم يؤدي بك إلى إيوان مفتوح ومن هناك تدخل غرفة شبابيكها مفتوحة على الرواق. الخادمة وبدون أن تبلغهم بمجيئي تأخذني إلى غرفة صغيرة. في وسط الغرفة كانت هنالك منضدة كبيرة مستديرة عليها مناديل وأوانٍ مرتبة. يقف قرب المنضدة رجل متزن وفتاة شابة ورجبوف الذي كان من معارفي. بمجرد أن دخلت قال رجبوف:

” آها ، أنه السيد مرتضى ف. تفضل، تفضل”

لم يكن يعجبني هذا النوع من الاستقبال، كنت أضنني ادخل إلي بيت شخص إيراني، ادخل إلى غرفة الضيوف ثم يأتي شخص ويتكلم إليّ، أو أن أنتظر خارجا. لكنني لم أتصور في حال من الأحوال أن ادخل مباشرة إلى غرفة الطعام، فهمت من هيئة والد ماركريتا أنه لم يكن له علم بزيارتي مطلقا، ربما كان قد نسى أن أكون الشخص الذي سيدرس ابنته نفسه.

 يجول في خاطره من يكون هذا الشخص؟ كان يريد أن يتحدث إليّ لكنه لم يكن يعرف ما يقول. صوت ماركريتا الناعم مثل رنين الفضة على الحجر يدركه:

  • بابا، أنه الشخص نفسه الذي سيعلمني اللغة الروسية.

     ماركريتا تتأملني للحظات. تقوم من مكانها وتضحك. ضحكتها كانت كالشمس التي تطلع من خلف الغيوم التي نشرت البرد والخمول لتملأ الدنيا فرحة وسرور. بعض خصلات شعرها الحريرية يلاعبها الهواء. قوامها الممشوق الجميل كالغزال. ما أجمل ضحكتها، لم تكن تسخر مني، لا لم تكن تسخر مني. تأملتني من رأسي حتى أخمص قدمي. كنت امسك حقيبتي وقفازاتي الجلدية بيدي. قبعتي ومعطفي كنت قد وضعتهما خارجا على الأريكة في الرواق. كانت يدي اليمنى خالية مهيأة للمصافحة، ربما كان ضحك ماركريتا بسبب حقيبتي الصفراء الكبيرة.

    كنت أخشى النظر كثيرا إليها، كنت أخاف أن أحترق بنارها، لقد سمّرت نظري إلى لوحة كبيرة نوعا ما معلقة بالحائط. لأنني كنت خجلا وكنت أفكر كيف يمكنني الخلاص من هذه المأزق.

  لم يأت ببالي غير هذا الكلام:

  • عفوا، من المؤكد إنني جئت في وقت غير مناسب، سأذهب وآتي في وقت آخر، أرجو المعذرة.

كان أواخر الصيف، البرتقال المقطوف موضوع على المنضدة. قلتها ولم أنتظر، عندما نزلت السلالم سمعت والد ماركريتا يقول:

  • تفضل، وما المانع. شرفتنا، على الأقل تناول برتقالة واحدة.

نزلت إلى فناء المنزل. كانت الخادمة تقف عند باب الدار، فتحت الباب، خرجت من الفناء، ماركريتا تهرول كالبرق ووصلت عندي قرب الباب و قالت:

  • متى ستأتي لنتكلم؟

    كان صوتها كرنين عملة فضية. شعرها الناعم يلاعبه الهواء على كتفيها، ومن الجانبين خصلتين كحلقات تتلألأ على طول يديها. عيناها الزرقاوان تبرقان كعيني قطة. لم أرَ فتاة بهذا الجمال في حياتي. فمها كزهرة توشك أن تتفتح. لم تكن تضع عطراً، لم تضع مكياجاً، شفتاها الحمراوان، خديها الطريان، جلدها كأنه قماش مخملي جميل، تفوح منها رائحة عجيبة، أصبتُ بالدوار، تبللت من شدة التعرق، لم اقوَ على الكلام. بدأت اتأتأ في كلامي:

  • جئت لأدرس اللغة الروسية.
  • أعلم، متى ستأتي ثانية لنتحدث؟
  • لقد جئت لأحدد موعداً.
  • إذن لِمَ العجلة، ادخل لنحدد موعداً.

احمّر وجهي، لقد فهمتْ إنني خجول، صعدت السلم (السلم الذي يؤدي إلى خارج الدار)، سلمتين…

  • متى الوقت الذي يناسبك؟
  • أنا دائما في خدمتكم.

صوتها السحري أخذني إلى عالم أسطوري.

  • تعال اليوم الساعة السابعة.

ثم أخذت بيدي، ضحكت بصوت عال وخرجت من المنزل.

بلا شعور، عندما دخلت الزقاق ، تلمست سبابتي بإبهامي،… هل مازالت حرارة يدها الناعمة والرقيقة في يدي أم لا؟ لن أنسى ذلك الموقف على باب الدار ما حييت، ربما بعد عدة أيام…

عندما كان مرتضى يتحدث عن ماركريتا كأنه لم يكن معنا. لم يكن يرانا أو يسمعنا كأنه يُحدّث نفسه كأنه يروي لنفسه قصة حياته. كنت متأكداً أنه عندما كان يتحدث عن ماركريتا كان يحس بنعومة شعرها. كان يسكت لعدة دقائق لكنه مازال في ذلك العالم، ثم يواصل حديثه، كان يقول: “ما الفائدة الآن؟ ما أجمل الحياة … بل ما أتعس الحياة! إنها مرة كالعلقم. سأحدثكم فيما بعد…”

كنت أتحين الفرص.

     في الشتاء كانوا يدخلونا الزنزانة الساعة الرابعة والنصف ويخرجونا يوميا خمس ساعات تحت أشعة الشمس. كان أحدهم يقتل البراغيث والآخر يعلق بيجامته على الشباك، وآخر يتثائب، الآخر يغني (أبو عطا)[1]، وذاك يرقع جواربه، في ذلك الوقت لم أجرؤ أن اسأله أن يصف لي أجمل أحاسيسه، كنت أنتظر الفرصة المناسبة … هذا إذا لم يبدأوا بتفتيشنا، إذا لم يزعجنا تراب نفض أفرشة السجناء، إذا لم يُنغص الشرطي جلستنا عند استراق قدح من الشاي تمكنّا من الحصول عليه بشق الأنفس، أتحيّن الفرص لأطلب منه أن يحكي لي مأساته.

    “ذهبتُ تلك الليلة في الساعة السابعة. لم أعلم كيف تمكنت من الذهاب ذلك اليوم برغم ما كان عندي من المشاغل الكثيرة، ذهبت إلى البيت الساعة الخامسة، وتهيأت كالأطفال الذين يريدون الذهاب إلى ضيافة أحدهم. كنت قد حلقت لحيتي صباحا لكنني حلقتها مرة ثانية بعد الظهر، لبست بدلتي الرصاصية التي كانت تناسبني كثيراً، ثم لبست ربطتي التي كان لونها يناسب البدلة تماماً، لبست معطفي المُخصّر، ثم ركبت العربة. كان قلبي ينبض بقوة طيلة الطريق. آلاف الأفكار الوردية كانت تجول في خاطري. كنت أرى المستقبل المضيء أمام عينيّ،

لكنني لم أكن اصدق عندما كنت أتذكر جمال ماركريتا ورقتها ونعومتها، عندها كنت أقول “لا لا مستحيل”، أحيانا أتذكر ضحكتها وأسلوبها في الضحك، اقول في نفسي ” لقد كانت تسخر مني” لماذا أصرّت اليوم على مجيئي. لماذا؟ لأنها أرادت أن أعلمها الفرنسية، نفسي لم أكن أعلم، ماذا أريد؟ لكن كل هذه الأفكار كانت جميلة لذيذة.

نزلت عند باب الدار قبل السابعة بعدة دقائق، بدأ قلبي فجأة يدق بقوة و بسرعة قلت في نفسي إنها حتما سوف تفهم بأنني بمجرد ذهابي شيكّت و زيّنت نفسي للقاء المرتقب، مسحت وجهي بمنديلي. عبثت بتسريحة شعري بيدي، كي لا تفهم بأني سرحت شعري حديثا. ليس جيدا أن تفهم إني زينت نفسي للقائها. كنت أريد أن أعفر حذائي بالتراب لولا أن الباب فُتح فجأة، تصورت أنه باب بيتهم، خطف لوني لكن بحمد الله كان باب بيت الجيران. ضغطت الجرس، فتحت الخادمة الباب، بمجرد أن دخلت البيت وجدت والدها واقفاً في الرواق، نزل السلالم، قال لي: ” تفضل، تفضل أدخل. تحدث قليلا مع ابنتي. العشاء سيجهز” كانت لهجته تركية وخشنة، قلت:

  • شكرا، لقد تناولت عشائي.
  • تفضل أدخل. أي شخص يأتي لبيتنا عليه أن يتناول العشاء، إذا رغبت فلا تأكل.

    ثم أرشدني الطريق دخلت الغرفة، منضدة كبيرة في وسط الغرفة، مصباح كبير يتأرجح من سقفها مباشرة فوق المنضدة، مظلة غامقة عنابية اللون تحيطها الشرائط الجميلة. الغرفة فاتحة نوعا ما. ستائر سميكة وثقيلة تغطي الشباك وجانب من الحائط. في الزاوية اليسرى البعيدة من الرواق كان هنالك بيانو كبير وبجانبه جرامافون وفي الطرف الآخر جهاز راديو. كانت ماركريتا تلبس ملابس زرقاء فاتحة ذات ياقة كبيرة تربطها بشريط عنابي معقود على شكل فراشة يتدلى على صدرها. لم أميز فيما اذا كان ضوء المصباح أم تأثير المظلة العنابية، أم حرارة المدفأة النفطية الحمراء أم الستائر الثقيلة أو لون البيانو الأسود، على كل حال كأن لون ماركريتا مختلف، ليس لأن خدودها لم تكن وردية

لكنها أجمل آلاف المرات مما رأيتها ظهراً.

كانت مارفينكا تقف في الجانب الآخر من البيانو. مارفينكا هي صديقة ماركريتا. كانتا يتكلمن الروسية مع بعضيهما. كانت بنت أحد الروس المولودين في إيران التي مات والدها، تعيش مع أمها التي تزوجت من أحد الإيرانيين.

عندما دخلتُ الغرفة رفعت ماركريتا دفتر النوتة من على البيانو ووضعته على المنضدة الصغيرة التي كانت بجانب البيانو: ” جيد جدا لقد جئتَ في وقتك، هل تعرف صديقتي؟ الآنسة مارفينكا…”صافحتني هيّ أولاً، ثم صافحتُ مارفينكا. في ذلك الوقت كانت مارفينكا توّد المغادرة، ثم غادرت وبقيت مع ماركريتا لوحدي في الغرفة.

  • لنتناول العشاء أولا. ثم نتحدث عن عملنا.
  • لقد تناولت عشائي.
  • و ما المشكلة؟ شاركنا، نحن ننتظر العشاء حتى مجيء السيد رجبوف.

تكلمت عدة كلمات. كانت تنظر إليَّ بكل بساطة وتنتظر جوابي.

  • دائما يأتي متأخرا. هذا أفضل.

ثم ضحكت. لم تكن ضحكة، كانت كلحن يخرج من أوتار آلة موسيقية ويبقى مدة يرقص في الهواء. لم تكن تنتظر جوابا مني ” لماذا أنت مرتبك لهذا الحد؟ أبي إنسان رائع يمكنك أن تصادقه. لم يتعدَّ الخمسين سنة، لكن روحه شابة، المسكين مريض وعصبي دائما، كم عمرك؟”

كانت تنتظر جوابي لكن لم أكن اعرف بم أناديها، لو كان لها اسم فارسي لكان من السهل أن أناديها: آنسه زرين أو يا آنسة سوزان … لكن آنسة ماركريتا اسم ثقيل. مادموزيل أيضا لا ينفع مع شخص يتكلم الفارسية. لكنه أفضل على أية حال” أنا 25 سنة … مادموزيل.”

  • لا تناديني مادموزيل. لا تكن رسمي جدا. عندما أتعلم الفرنسية،

عندها سنتكلم الفرنسية معا ، يمكنك آنذاك أن تناديني mademoiselle  . هل لفظتها جيدا؟ أنا درستُ اللغة الفرنسية قليلاً لكنك ستعلمني جيداً.  أنا أجيد الروسية بطلاقة. أمي كانت روسية. أقصد إنها موجودة أيضا الآن.

   مشينا خطوات نحو زاوية الغرفة أخرجتْ ألبوماً من تحت المنضدة، قالت: ” تفضل هنا، أريد أن أريك صورتها. أنظر كم هي جميلة، لا أعلم أين هيّ الآن. ليست في إيران، إني أحبها كثيراً، في غرفتي صورة كبيرة لأمي، واحسرتاه… إنها ليست معي.”

أخذت الصورة منها وتأملتها. كما قالت كانت امرأة جميلة جدا لكني تملكني الخوف والقلق. كنت أخشى أن تأخذني إلى غرفتها. قلت: ” صورتها تدل على إنها كانت امرأة جميلة جدا.”

  • مازالت تبعث لي بعض الرسائل أحيانا. أبي كان يحبها كثيراً. كانت توصيني دوما: اعتني بنفسك جيدا.

كنت أود أن اسألها عن سبب فراقها عن أبيها، لكن لم تكن لدي الجرأة على ذلك. واصلتْ ماركريتا كلامها:

  • لكن لا تظن إني نسيت اللغة الروسية. أنا أتكلم الروسية لساعتين يوميا.

سألتها:” مع مّن؟”

  • مع مارفينكا. نحن أصدقاء كثيراً، نعزف الموسيقى معاً، نعزف على البيانو سويةً، إذا رغبت أن أقوم بدعوتها ذات ليلة، ونعزف لك سوياً، إنها فتاة رائعة.

ثم ضحكت ، وأحيانا تقبل عليّ و تتكلم عني، وسألتني : ” هل تحب المطالعة؟ وأيّ من الكتّاب الروس تحبه أكثر؟ أنا أعشق بوشكين[2] لأنه يتحدث دوماً عن آلام الإنسان ومشاكل الحياة.”

لقد تعجبتُ كثير ففتاة بهذا الدلال و الرقة تتحدث عن الآلام و المشاكل!

كذلك قالت وضحكت ثانية، كأنها لم تتوقع أن تبوح لي بهذا الكلام.

  • ألا تشعر بالحر؟ هل أقلل حرارة المدفأة؟

لم أكن أشعر بالحر.

  • لم تذكري لي ايّ نوع من الموسيقى تحبين؟…

طبعا كنت لا أهوى الموسيقى كثيراً.

  • هل تريد أن أعزف لك شيئاً؟ لا لا لنصبر لما بعد العشاء. رجبوف لا يحب الموسيقى، يلعب مع أبي الشطرنج، شرط أن لا يكون قد تناول الخمر. عندها أعزف لك على البيانو. أي نوع من الموسيقى تحب؟

لكنها في كثير من الأحيان لا تنتظر مني جوابا، كانت تضحك وتواصل الكلام.

لقد غُصت في أعماق سحرها الأخّاذ، كنت أتأمل حركة شفتيها الرقيقتين. كنت أعوم هذا الجمال السحري الرائع، كنت أتذوق ألحانها العذبة، كنت أتحسس حرارتها ونعومتها التي كانت تشع منها. كنت أتذوق جمالها كله،… الثمالة، الفراق، التلاشي ، كل هذا كنت أحسه في داخلي.

 لقد دخلت عالماً جديداً بعيداً عن دنيا الآخرين، بعيداً عن عالمي، بعيداً عن الدنيا الرتيبة الكئيبة. دنيا يوجد فيها مكان للأمل والحب. في هذه الدنيا يجهل الإنسان ماذا يحدث له غداً، يذوق الإنسان فيها المرارة والألم… لماذا ماركريتا تضحك، هل كانت تسخر مني، ربما لم تكن سخرية. ربما أعجبتُها، ربما نصبح عاشقين، ربما سأعجبها قليلاً في الأيام القليلة القادمة. عندها ستصبح كل حياتي ملكاً لها. سيصبح كل وجودي فداء لها. ما أجمل كلامها، لم أكن أملك الجرأة في أن اسألها شيئاً. لكني كنت أفكر في نفسي: ” ماركريتا، بِمَ تفكرين… بي؟” جمال الحياة بهذا المجهول، بهذا الأمل أن يصبح الغد أفضل من اليوم، دنيا أهدأ، دنيا أجمل.

في ذلك الوقت جاء والدها :

  • ” السيد مرتضى. ف. لم ينطق بكلمة اليوم. كنتُ أنا فقط المتكلمة”
  • حسنا ماري، لماذا تكلمتي كثيرا؟ إذا أردت أصمتي.

 

 

 

 

 

 

عندها تكلم السيد ف.

والدها يدير وجهه إليّ قائلا:” هل أنت مدرس؟”

  • نعم.
  • منذ كم سنة و أنت تُدرّس؟

     هكذا بدأ كلامنا كرجلين يتحدثان إلى بعضهما، تحدثنا قليلاً، ثم جاء رجبوف ثم تكلمنا على مائدة العشاء وبعد العشاء كذلك. حول عملي، حول مستقبلي و أوضاع العالم، في ذلك الوقت وُقعتْ معاهدة ميونخ[3] حديثا. وعن قوة واختراعات ألمانيا ولو أن الدنيا أتحدت ضدها فلن يتمكنوا من دحرها. كان رجبوف يؤكد على أهمية إسقاط روسيا. لماذا لأنهم كانوا يأخذون المصانع من أصحابها لتصبح ملكا للشعب، لماذا لأنهم أخذوا بيوته الخمسة في باد كوبه [4] ولم يعيدوها إليه ثانية. أخذوا بيوته و بنوا مدرسة بدلاً منها. كما جعلوا حديقة أبيه الكبيرة روضة  للأطفال.  إن الدنيا هي دنيا السيد والعبد، الغني والفقير وستبقى كذلك. وكل هذا بجانب والتجارة بجانب آخر ! فالدولة بدون التجارة لا تساوي شيئا وترقى الدول بدعم التجار وغناهم. أرني تاجراً روسياً واحداً، … و أموراً أخرى من هذا القبيل.

عندها تدخلت ماركريتا قائلة:

  • بابا، ما أكثر ما تتكلم عن السياسة؟ كنت أريد أن أعزف قليلا للسيد مرتضى، إذا لم ترغبوا بالاستماع العبوا الشطرنج .

ذهبنا سوية إلى الغرفة المجاورة، لأن البيانو كان هناك، الغرفة نفسها التي تناولنا فيها الطعام، الغرفة نفسها التي التقيت فيها بماركريتا لأول مرة، لكن لم يكن هنالك ما بين الغرفتين من جدار يفصلهما تماماً، لدرجة أن الجالس في الغرفة المجاورة يمكنه الحديث مع جالسي الغرفة هذه، ماركريتا تسألني: ” ماذا تحب أن تسمع؟  موسيقى بسيطة أم معقدة؟”

شعرت بالخجل فلم أكن أعرف الفرق بين النوعين، كنت أتصور كالعادة إنها لن تنتظر مني جواباً، لكنها في الوقت ذاته الذي كانت ترتب فيه أوراق النوتة، سكتت قليلاً ثم قالت: ” قل شيئاً على الأقل.”

  • اعزفي ما تحبين أنت.

 

 

 

 

 

  • ألا تحب الموسيقى ؟
  • لِمَ لا؟ أحبها جداً.

قال والدها اعزفي شيئاً، مفرحاً، ولا يكون حزيناً.

قال رجبوف: ” إذا عزفت  dance macabreسوف أهرب.”

ماركريتا تسأل: ” بالمناسبة ما معنى macabre سيد مرتضى؟”

 ارتبكت قليلاً، كأنها بضحكتها تريد أن تمتحنني، macabre يعني الشؤم، macabre يعني الفاجعة، يعني الجثة التي تحكم في المقابر. لا يمكنني أن أجد ترجمة مناسبة لهذه الكلمة.

قالت ماركريتا: ” واو… إنها كلمة مرعبة، موسيقاها كما تقول.”

قال رجبوف: ” أنا قلت هكذا.”

أجابت ماركريتا بحدّة: ” كلا، أنت لم تقل هكذا، أنت قلت شيئا ثم أكملت المعنى بالإشارات وأنا لم أفهم ما قصدتَ.”

  ظهر على وجه رجبوف الغضب، من الواضح أنه لم يكن يتوقع جواباً كهذا بحضوري.  فهمت مما حدث أن ماركريتا لا تحب رجبوف، كأنها أرادت أن تظهر هذه الحقيقة لي.

   عندها ذهبتْ ماركريتا عند البيانو وعزفتْ برهة من الزمن، جعلتني أشعر بالارتياح، كنت أتمنى أن تكون كل الدنيا سعيدة مثلي، و أن تستمتع بهذا اللحن السحري المرموز الذي تعزفه هذه الأصابع العجيبة، أراد قلبي أن يقرأ أسرار ماركريتا من عينيها، ماذا كانت تعزف؟ لا أعلم. لكن ألحانها أحرقتني، أشعلت النار في قلبي، دمي كان يغلي، وأيقنتُ أني أسعد مخلوق في العالم.

لا أدري إلى أي وقت بقيت هناك تلك الليلة، لم أذكر. على أية حال أصبح الوقت متأخراً، كان رجبوف يجلس مع والد ماركريتا في الغرفة المجاورة، في النهاية جاء رجبوف ليودعني عندها فهمت إني يجب أن استأذن.

كان الاتفاق أن أذهب ست ليال في الأسبوع، أتعلم الروسية ليلة وأعلمها الفرنسية في الليلة التالية. كان هذا أول لقائي بماركريتا

ثم اعتدت المجيء يوميا إلى بيتها ، اي أن أبقى حتى الساعة الحادية عشر او الساعة الثانية عشر كل ليلة عدا ليال الجمع.

  لم يكن مهمّا لَديّ أن حياتي تغيرت رأسا على عقب، لكن المهم أن أفكر في العمل الذي أفعله كي أرضي ماركريتا. أخبرتني ذات مرة إنها تحب اللون الأزرق الفاتح. فأصبحت معظم ملابسي باللون الأزرق الفاتح. وأصبحت لا ألبس القمصان إلا الأزرق الفاتح منها. كل بيجاماتي أصبح لونها ازرقاً فاتحاً. ذات مرة قالت: ” بشعرك الأسود المجعد ولون بشرتك الحنطاوية أرى أن اللون القهوائي يناسبك أكثر. ” أشتريت ملابس قهوائية تميل الى اللون الأحمر. مدت مرة يدها ورتبت عقدة ربطة عنقي، عندها أصبحت أهتم بهذا الموضوع كثيراً.

كانت تحب الموسيقى الراقية كثيراً. لم أكن أهتم للموسيقى كثيراً، لكني سعيت لأن أروض نفسي للذوق الموسيقي، اشتريت عدة اسطوانات موسيقية وعدة كتب تخص الموسيقى وبدأت القراءة ولم أتردد في أن أسأل ماركريتا عن بعض الأمور الموسيقية.

   لم تكن تحب رجبوف، لذلك بدأتُ اشعرُ بالكراهية تجاهه. فبالقدر الذي أحب وأعشق ماركريتا أصبحت أبغض وأكره رجبوف. في ليلة من الليالي عندما أنتهينا من الدرس، طَلَبَ رجبوف من ماركريتا أن تعزف له على البيانو، نظرت ماركريتا اليّ، لقد كانت تلك الليلة أسعد ليلة في حياتي، أسعد ليلة و أنا حر طليق، لم تكن لتلك النظرة معنىً خاص، أرادت أن تسألني: “أنا تعبة، لكن إذا أردتَ أنت سأعزف ولأجلك أنت فقط، لأني احبك، وإن كنت لا ترغب سأرفض طلب رجبوف رفضاً قاطعاً.” كلا ، لم تكن هكذا.

     فهمت من نظرتها هكذا، آه، ما هذا الجنون، لأنها أعطتني يدها، كنت أظنني أحبها، لقد فهمت من نظراتها رغبتها و حبها، كنت أفكر لليال وأيام فقط بتلك النظرة، كنت أتأملها أيضا، لكن لم أمتلك الجرأة أن أسيطر على أعصابي، ربما تأملت كل الدنيا، ماركريتا أما كانت متعبة أو أرادتني أن ارفض دعوته،  قالت ماركريتا: ” أنا متعبة اليوم ،سأعزف لك في فرصة ثانية.”

أصرّ مرة ثانية حتى أصبح رجبوف في موقف لا يحسد عليه، عندها أضطر والد ماركريتا للتدخل. وأجبرها أن تجلس عند البيانو. لقد شعرت بمرارة الموقف لكني ذهلت من رغبة رجبوف المفاجئة في الموسيقى لدرجة إني صدّقت أن رجبوف يعشق الموسيقى، لقد شعرت بالاشمئزاز عندما رأيت ماركريتا تعزف مجبرة وهي بحالة عصبية على البيانو بألحان لا معنى لها، واصلتْ العزف لعدة دقائق، بدأ بالتثاؤب لمرتين أو ثلاث، يرفع يده إلى فمه عند التثاؤب مرات عديدة، وبدأت الدموع تنزل من عينيه.

وعندما أنتهت من العزف قالت: ” آسفة لم أعزف جيداً.”

ثم خرجت من الغرفة، ذهبت حوالي نصف ساعة بعدها ارتدت معطفها وجاءت تستأذنني.

كان يوم الجمعة، أرادت أن نذهب إلى السينما برفقة مارفينكا، نهضتُ أيضا وخرجنا سوياً من المنزل، مارفينكا كانت تنتظرنا في فناء المنزل، لقد رافقتهما حتى باب السينما، عند الباب قالت: ” لقد عزفت بصورة سيئة هذه الليلة. كنتُ مجبرةً، لا يمكنني العزف جيداً.”

  • لقد لاحظت أنزعاجكِ.
  • عندما أكون منزعجة لا يمكنني العزف جيدا. سأعوضك، ففي الجمعة القادمة ستأتي مارفينكا إلى بيتنا ونعزف لك سوية على البيانو dance macabre .

عندها تذكرت أن رجبوف سيكون هناك أيضا، و سيبدأ التثاؤب ثانية، وسوف يجعلني عصبيا مرة أخرى، لقد قررت أن أجد عذراً كي لا أكون موجوداً هناك في الجمعة القادمة.

  • آسف ، الجمعة القادمة سأكون مشغولاً لا يمكنني المجيء.
  • كيف، ماذا لديك؟

أستغربت ماركريتا من جوابي. إنها المرة الوحيدة التي أرفض فيها دعوة ماركريتا.

  • حسنا الجمعة التي بعدها إذن.
  • حسنا حتى الجمعة التي تليها سنرى ما سيحدث.

 

 

 

 

 

 

 

 

لقد أدركت ماركريتا أن لدي سبباً ما. لقد قضينا تلك الليلة ساكتين. بعد عدة أيام وعندما كنا لوحدنا سألتني ماركريتا: ” لماذا رفضت دعوتي ذلك اليوم؟”

  • ألا تعلمين لماذا؟ عندما كنتِ تعزفين في ذلك اليوم الم تريّ شكل رجبوف حينها؟ لقد نظرت إلى الدنيا بمنظار آخر بتلك الألحان التي كنتِ تعزفيها. لا أريد أن أفقد هذه السعادة التي أشعر بها. لقد أردت أن اطلب منك أن تعزفي dance macabre .
  • إذن لماذا رفضت دعوتي؟
  • شرط أن لا يكون رجبوف موجوداً.
  • أراك تغار منه!

    لقد شعرت بالخجل كثيراً. وشعرت بخديّ مالا للاحمرار، و يكاد الدمع يخرج من عيني، لكني تمالكت نفسي. هذا الحوار كان ضمن محاورة باللغة الفرنسية، ولأني كنت أجيد اللغة الفرنسية كنت أكثر جرأة بالحديث وكانت ماركريتا تجيبني بالفرنسية أيضا، لكنها أكملتْ المطلب باللغة الفارسية. كانت المرة الأولى التي تسخر فيها ماركريتا من مشاعري.

  • لا لم تكن غيرة، لكن عندما كنت تعزفين، لم أطق تثاؤبه وحركاته المقرفة.
  • كن واثقاً بأني أشمئز من هذا الرجل ايضاً، لكن قبول هذا الشرط صعب عليّ سأحاول التصرف بما يعجبك، أنت لا تعلم نوع العلاقة التي تربطنا به، لا داع لذلك. أنا أتحين الفرص.

لكني أنتظرت تلك الفرصة كثيراً. حتى عندما ذهبنا ذات يوم الى السينما برفقة والدها، التقينا بمارفينكا ووالدتها و ذهبنا إلى كافتريا “استريا” كررت عليها طلبي نفسه. في الحقيقة أردت أن أرى ماركريتا حرة لمرة واحدة، أردتها أن تخرج من تأثير وسيطرة رجبوف. أردت أن أراها عندما تكون تحت تأثير إحاسيسها و عواطفها ماذا ستفعل. كنت أعلم أن تأثير dance macabre له تأثير أكثر من أي تأثير آخر،

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كنت أحب أن أراها تحت تأثير تلك القطعة الموسيقية، أردت أن أرى ماركريتا الحقيقية كيف تشعر.

      على غير العادة قطعتُ كلامَ مرتضى وسألته :” يوجد شيء واحد فقط لم افهمهُ جيداً. فبالرغم مما تملكه أنت من الأحاسيس والعواطف والعشق تجاهها، ألم يصدر أي ردة فعل أو علامة أو تصريح من قبل ماركريتا تجاهك، فقد كنت تعشقها وأن شئت أم أبيت سوف تظهر أحاسيسك جلية واضحة لديها، مع ذلك لم تبح لك بشيء؟”

” كنت أعشقها ولازلت أعشقها، ولهذا السبب أنا أعشق الموت. كنت تقصد أنه ماذا كنت أريد أنا من هذا العشق؟ هل هي تحبني أيضا، أم لا ، لم تبح لي بأي شيء، لم تلمح لأي شيء، كنّا كصديقين، لم تتجاوز علاقتنا هذا الحد. لا تستعجل سأجيبك على ما يدور في ذهنك، أنتم لا تدرون ما أجمل أن يكون للمرء ماض جميل يتحدث عنه، ما أجمل أن يضحي من أجل شيء أحَبّهُ، من أجل شيء يؤمن به، من أجل فكرة يعتنقها، من أجل أمل أو بصيص أمل، ما قيمة هذه الدنيا المملة الرتيبة البائسة. أنا مستعد للموت من أجل أن تكون حياتها جميلة. لكن ماذا كان ردة فعل ماركريتا؟ أقول لك الآن، عندما كانت تدرسني الروسية قررنا أن نقرأ بعض روايات الأدب الروسي و وصلنا إلى بعض مقاطع رواية ” اوگیناانگین” [5] للشاعر الروسي بوشكين[6] قرأت بعض مقاطعها لماركريتا، على الرغم من صعوبة فهمها باللغة الروسية بالنسبة لي لكني كنت قد قرأت الرواية باللغة الفرنسية فتمكنت من فهم الرواية قليلاً. عندما وصلت إلى مراسلات “تاتيانا” تأثرت بالشخصية تأثيراً كبيراً إلى درجة أنه بانَ عليّ ذلك. عندما أدركتْ ماركريتا أني تأثرت بالشخصية كثيراً قالت: ” أنا أحب تاتيانا وكنت أرغب أن أكونَ مثلها “

قلت: ” لا يمكنك أن تكوني مثل تاتيانا مطلقا. مّنْ يمكنهُ أن  يكونَ مضحيا مثل تاتيانا وله ماض مثل ماضيها، أن تضحي لشخص مثل الذي أحبتهُ، قالت له و أعترفت بحبها له، تاتيانا كانت تظن أن الشخص الذي أحبته لا يبادلها الشعور

أو لا يريد أن يبادلها الشعور، كذلك تكتب وتقول له أنا أحبك وألقي كل الوجود والعدم كل أسرار حياتي المتعلقة بك ألقيها جميعاً تحت قدميك لأنك حبيبي.”

ثم بحثتُ عن كلمة و لم أجدها.

  • ليس لدي معك ذلك الماضي و تلك التضحية.

ضحكت ماركريتا، أرادت أن تسخر مني، أو ربما أرادت كالعادة أن تُلطفَ الجو، أو أن تضفي مسحة من السعادة على أي مكان تكون موجودة فيه و تطرد الحزن و الكآبة من المكان، أو ربما كانت تضحك لأنها لا تريد أن تجيب بشيء.

  • لا ، أنا لا اقصد تاتيانا هذه، أنا اقصد ذلك الوقت الذي أصبحت فيه تاتيانا زوجة الجنرال، أنت لا تعلم لأنك لم تقرأها.
  • لا أنت متوهمة، أنا قرأتها حتى تاتيانا تلك لا يمكنكِ أن تكوني مثلها، عندما أصبحت زوجة الجنرال، زوجة الجنرال الذي لا تحبه، تاتيانا زوجة الجنرال كانت بكل تلك العظمة والهيبة، كانت في الحقيقة منكسرة حزينة في داخلها، تاتيانا لم تكن مستعدة أن تعيش مع حبيبها، وترد زوجها، أنتِ لا تقدرين على هذه التضحية.

    ضحكت أيضا وأرادت بضحكتها أن تقول شيئا، جعلتني أفكر، أنا لم أعط أهمية لكلماتها، في ذلك اليوم أرادت أن تهدأ من غضبي قالت لي: ” كيف عرفت أني لا يمكنني التضحية، أنا أضحي الآن بتضحية أعظم، لقد قلنا كل شيء لا يمكن قوله، لنطوي هذه الصفحة… ” وذهبت تلك الفرصة، كنت في أحدى ايام الجُمع ضيفاً على ماركريتا وأبيها، كانت مارفينكا هناك أيضا.

بقيت صباح ذلك اليوم في المنزل، كان الجو بارداً جداً ومثلجاً، قرأت بعض الصحف التي كُتبت عن الحرب، ثم استمعت لأسطوانة dance macabre التي اشتريتها، ثم تصفحت الكتب الفنية وبعض رسومات القرون الوسطى ل “هلباين”.

خرجت من المنزل ما يقارب الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، ذهبت راجلاً الى بيت ماركريتا. كان الهواء يهب بارداً وجافاً شديد البرد في الساعة الثالثة بعد الظهر. على الرغم من أن الجو كان مشمسا الا أنه يمكنك سماع صوت الثلج الذي يتكسر تحت قدميك، كانت الناس تهرول في الشارع من شدة البرد، لقد كان بالي مشغولاً لدرجة أني لم أنتبه لحركة الناس في الشارع. لقد كنت أفكر في ماركريتا فقط وأقول في نفسي ما التأثير الذي أوجدته معزوفة dance macabre في ماركريتا. كان كل شيء مفرحاً ويجلب السعادة والأمل هناك حيث هي موجودة، الضحكة والراحة، ما قصتها مع الموت؟  dance macabre رقصة الموتى، إلى أي حدٍّ يكون الانسان يائساً من الحياة ليستمتع برقص الموتى، ما الذي يحدثه رقص الموت من تأثير في ماركريتا. هل تستمتع برقص الموتى و تسلب الأمل منهم. لماذا أنا قلق؟ مضطرب؟ لقد كنت أستمتع بكل الأيام والأسابيع والشهور، سأكون عند ماركريتا بعد الظهر، يوم لا يكون رجبوف موجوداً فيه من المؤكد إنهم كذبوا على رجبوف و قالوا له إننا لسنا في المنزل اليوم، لكن ماذا لو جاء اليوم إلى منزلهم؟ ماذا سيحدث؟ ما سبب اضطرابي؟ أنا لم اسمع شيئا وقلبي ينبض بقوة. عندما دخلت الغرفة شعرت بأن ماركريتا حزينة، ليس لأنها لم تكن تضحك بصوت عال يشبه صوت العملة الفضية، قالت: ” جيد، لقد أتيتَ مبكرا، لم تأت صديقتي لحد الآن، مارفينكا ستأتي الآن، كنت أشعر بالوحدة، أبي مريض، حالته لا تسرّ، لا يمكنه المجيء عندنا، كنت مهمومة منذ الصباح لحد الآن، لكن حاله الآن أفضل، ربما يمكنه المجيء بعد ساعة، هل تشعر بالبرد تعال قرب المدفأة.”

  • إذا كان أبيكِ متعبا اسمحي لي أن أغادر.
  • كلا، ابق، أنا سعيدة جدا أنك قد أتيتْ.

   قالتها جملة واحدة، كانت تكلم نفسها، كانت تسألني، كنا لوحدنا. كانت فرصة مناسبة لأقول لها ما يجول في خاطري وفي قلبي، أيَّ مكان احتلته في قلبي، أقول لها أن الحياة بالنسبة لي سهلة، عمل واحد، لكن فيه معاناة كثيرة. أخبرها أن حياتي كانت عبارة عن ألم وعذاب والأسوء بدون حركة أو أثارة أو تغيير. أخبرها أني لحد الآن لم أر من هذه الحياة إلا مصائبها، جوع الناس، تعذيب البؤساء، القتل والظلم والجور. أخبرها أني أنهض يوميا من النوم،

وليس لي هدف في هذه الحياة، أضع اليد فوق اليد، كان يقتلني تناول الرز والزيت. لكن عندما عرفتك، رأيت دنيا جديدة، أخبرها أن الحياة الآن حياة الموسيقى والفن، أخبرها بأن حياتي إلى الآن كانت بلا فن، وحتى إذا كان فيها فن كان بلا حياة وخال من الروح، أخبرها بأنها أرتني الحياة الحقيقية، أخبرها بأنها جعلتني أشعر بطعم الحياة الآخر، أخبرها بأن حبها زرع فيّ الأمل، آآآآآآآآه ما أكثر الأمور التي كنت أرغب في أن أبوح بها لها، كنت أريد أن أقول لها أني أحبك، لكن لساني لم يجرأ على ذلك، لكني أردت أقول ذلك كله بنظرات عينيّ.

ماركريتا كانت دائما تخشى نظراتي المتواصلة، إلا إنها لم تبح بذلك، لكنها اليوم أسوء من كل يوم كانت فقط تتحدث، لم تسكت ولو لثانية واحدة. كانت تخشى السكوت أو ربما أرادت أن تخفي روحها عني، أرادت أن تخفي نفسها بالكلمات.

في ذلك الوقت جاءت مارفينكا، تكلمنَّ مع بعض باللغة الروسية، فهمت قليلا مما تحدثنَ به. جلبن الشاي والحلويات، ثم جلسن عند البيانو. dance macabre يعني رقصة الموتى، يعني رقص الموت هكذا كان مكتوبا على دفتر النوتة بخط ناعم. كان يسمع صوت خشخشة فقط.

ساد السكوت التام لعدة لحظات .

اتكأتُ على زاوية المنضدة، كانت كل حواسي متجهة نحوهما، أثار اللحن الأول فيّ الذعر و الخوف، كان الـ  macabre، لا توجد كلمة في اللغة الفارسية تقابلها، كانت الشؤم. كنت أسمع جيدا بين الألحان روح الكلام.

الساعة، تدق اثني عشرة مرة، منذ هذه الساعة حتى الصباح، الموتى أحرار. أحرار. أحرار.

أنه منتصف الليل!

يا لها من ليلة مرعبة.

كذلك كل ليلة مرعبة. لأن الحياة بالنسبة لنا مخيفة ومرعبة ومحرقة. ليس لديهم أرواحا ثانية لتحترق، الموتى ليس لديهم أرواح.

نحن لذلك لسنا سواسية، لكن الموتى سواسية.

يحتفلون منذ منتصف الليل حتى صياح ديك الصباح، احتفال الحرية، احتفال الخلاص من آلام الحياة ومعاناتها.

الجميع سواسية.

لا فرق بين الملك والعبد، لا فرق بين العجوز والشاب، لا فرق بين البنت و الولد، بين المرأة و الرجل، الجميع موتى، كلهم هياكل عظمية.

لا تاج على رأس، لا زمرد على جسد، يمسكون بأيدي بعضهم ويرقصون.

الرقص صفة الجميع، رقص الهياكل.

الموت يعزف بعظم ساق كان يوماً ما لفتاةٍ فارعة الطول يعزف على جمجمة عظيمة.

إنها الساعة الثانية عشر، الهياكل تصعد سلالم القبر وتبدأ الرقص.

الموت يعزف لحناً جميلاً يلائمها، فلا تسلط وجبروت بعد الآن.

الموتى يجتمعون ويمسكون بأيدي بعضهم ويدبكون.

الوجوه التي كانت تسخر من الآخرين في تلك الدار قُضى عليها أن تمحو تلك السخرية منها، تلك الوجوه التي كانت تعتذر بابتسامتها، رحلت تلك الابتسامة أيضا، لأن كل تلك الوجوه ماتت، أنهم موتى الآن، لن يبقى ذلك الأثر بعد الآن، لأنهم موتى لأنهم أحرار.

   بعض من تلك الهياكل كانت محنية الظهر، لقد أحنى الزمان ذلك الظهر المجهد، أحنى رأسه العوَز للآخرين، لا حاجة لذلك بعد الآن، لا حاجة لطلب الرزق الآن، لا حاجة للضحكة او البكاء، لا الغم لا السعادة، لا الأمل لا التملق، لا الذل لا التحقير، لا الظلم، لا الجوع، لا الشبع.

لا شيء آخر غير الموت، غير الحرية.

أليس هذا الموت أفضل من تلك الحياة المقيدة.

أليس هذا الموت أفضل من سخرية وتسلط القاضي؟

أليس هذا الموت أفضل من تلك الحياة التي تحني الظهر!

أليس هذا الموت أفضل من أن يعيش الإنسان بتلك القيود؟

لذلك هم الآن يحتفلون.

يرقصون، لأنهم أحرار.

الموت يعزف بعظم ساق الفتاة على جمجمة عظيمة نشيد الموت، نشيد رقص الأموات.

يا الهي.  حتى هنا الحرية مقيدة.

ديك الصباح يصيح.

كل الأموات، يهرعون.

طق… طق

كنت أرى هذا المشهد عندما كانت ماركريتا ومارفينكا تعزفان .

عندما أنتهى العزف، كان وجهاهما مخطوفين، كانا ينظرن اليّ، كانت حالتي يرثى لها.”

يتنفس مرتضى نفسا عميقا، كان يروي الجزء الأخير من قصته وهو غير ملتفت لأي شخص يستمع إلى روايته، لا شك أنه كان تحت تأثير ذلك الكابوس المرعب.

 ” لم ألتفت بعدها ماذا حدث في ذلك اليوم، كنت أعلم إني نمت مثل الموتى حتى الصباح، في صباح اليوم التالي كنت مضطربا وعصبيا. لم أذكر شيئا سوى وجه ماركريتا الشاحب بعد عزفها لتلك المقطوعة dance macabre .

كنت متأكداً إنها لم تكن تلك ماركريتا تلك الفتاة الباسمة والمرحة، وكأنها كانت تخفي عني أمراً ما، كنت مضطربا لِمَ لم اعرف ذلك السر لحد الآن؟

في اليوم التالي بينما كنت جالسا في غرفتي حوالي الساعة السادسة عصرا، كنت أستمع لمقطوعة dance macabre، رأيت فجأة أحدهم يقف خلف باب غرفتي المزجج في ذلك الجو الثلجي ببرده القارص، يمسك أحدهم بمقبض الباب ويطرق بيده الصغيرة عدة مرات ثم يدخل الغرفة. كانت مارفينكا تقف في الغرفة.

يتضح من هيئتها إن حدثاً عظيماً قد حدث اليوم، لم تكن تجيد الفارسية،

ولم أكن أجيد الروسية لدرجة أني افهم منها ما حدث بالضبط. لكني فهمت إنها كانت تريد أن تستعجلني بأي وسيلة متاحة، وأن أسرع لأنقذ ماركريتا. الا أنني لم افهم ما الذي حدث، وأي مساعدة يمكنني أن أقدمها، ركضت بكل سرعتي إلى خارج الدار. لم أجد عند الشارع أية عربة أو وسيلة نقل لأن الجو كان بارداً جداً، كانت العربات متوقفة من كثرة الجليد. لم تتمكن مارفينكا من الجري بحذائها العالي، كان الجليد يغطي الأرض، قلت لها:

  • سأذهب أنا ثم اتبعيني أنتِ.

قطعت نصف المسافة جرياً ثم ركبت أحد الباصات، بعدها تمكنت من أن استقل عربة. في ذلك الوقت تذكرت إن تلك الكلمة الروسية التي كانت تكررها مارفينكا كانت تعني “الأنتحار”. كانت تريد الانتحار، لم أتمالك أعصابي، كنت أصر على صاحب العربة أن يقود العربة سريعا، كان يقول:

  • سينزلق الحصانين في الجليد، لا أستطيع أن أقود أسرع من هذا.
  • أسرع قليلا افعل شيئا يجب أن أصل سريعا.

نزلت من العربة في بداية شارع نادري، لم أُرد أن ينتبه الناس إليّ.

وصلت باب الدار الساعة السابعة تقريبا. كان الجو مظلما، الباب مفتوح ، دخلت فناء الدار.

عندما نزلت من السلالم، ذهلت. أعتقدت إنني جننت، كان رجبوف ملقى على الأرض، والدم ينزف من رأسه، كان ذلك واضحا رغم الظلام السائد.

ماركريتا بعينيها الدامعة، كانت مذعورة، وجهها مخطوف، تلوح بيدها وتصرخ، والد ماركريتا بلباس النوم يمسك بالسلم بقوة ينوي النزول.

ماركريتا أنعقد لسانها:” أنا… أنا…”

احتضنتها، أخذتها إلى الغرفة، كانت ترتجف كالسعفة.

سألتها:” أنتِ فعلتها ؟ أنتِ القاتلة ؟”

  • أنا… أنا…

سحبت والد ماركريتا الى الغرفة.

  • لا تقلق ، اهدأ. سآخذه سريعا إلى المستشفى .

ثم نظرت إلى ماركريتا:

  • ماركريتا ، لا تخبري أحدا بما حصل، ايّ أحد، عديني أن لا تذكري ما حصل. ماركريتا، إذا كنتِ تحبينني، عديني أن لا تخبري أحدا، إذا لم يفهم أبيك بالموضوع فالأفضل أن لا تخبريه، اذهبي ارتاحي.

أخذت ماركريتا في حضني، قبلت يدها و وجهها، ثم أكدّتُ عليها:

  • ماركريتا، سآخذه إلى المستشفى ، لا تقلقي سيتحسن.

حملته خارجا، بحثت عن عربة لنقله، رأيت مارفينكا قادمة، قلت لها:

  • اذهبي أنتِ أيضا ، وضع ماركريتا سيء . ذهبت لتنام.

لم أجد عربة، رجعتُ إلى فناء المنزل وصحتُ:

  • ماركريتا ، لا تخبري أحدا، ايّ أحد.

حملت جسد رجبوف ونقلته خارجا، ماذا كنت أريد أن افعل. لا أعلم.

عندما أنتبهت الى الناس يجتمعون حولي، الشرطي يأخذني إلى مكانٍ ما. عندما كانوا يسألونني، كنت أقول ” أنا فعلتها ، أنا قتلته”

والآن أقول :” أنا قتلته”

ما أجمل أن تحمل وزر غيرك، ما أجمل أن يكون لك هدف في هذه الحياة.”

لم ينطق مرتضى .ف أي كلمة أخرى ، كان في عالم الرؤيا، كأنه كان يروي لنا رؤيا قد رآها. فهمت أخيراً لماذا كان يريد الذهاب إلى الموت بذلك الشوق، لقد وجد هدفا في حياته البائسة.

لقد أخذوه البارحة من بيننا ، كما تؤخذ الشاة من القطيع إلى المقصلة. ربما أنا الشخص الوحيد الذي كان سعيدا. لذلك كنت أقول في نفسي لقد ارتاح و سيشارك هذه الليلة في الساعة الثانية عشر في رقصة الأموات

سيأخذ بيد رجبوف وسيرقصون رقصة الحرية، بلا حقد ولا كراهية، بلا حرص أو طمع، لكنها …الحرية… الحرية.

كلا، ليس كذلك.

لقد جاءوا اليوم وجمعوا أغراضه. كنّا على يقين بأنهم سوف يعدموه. عندما كنت أريد أن أجمع أغراضه وجدت عدة وريقات. قرأتها خلسة، هل كان عليَّ أن أسلمها كجزء من أغراضه أم أوصلها إلى بيته أم هل يمكنني أن أسلمها بيده خفية، على أية حال يجب أن أسلمها إلى ماركريتا أو أخته.

لكنها لم تكن بخط مرتضى، من الواضح إنها وصلته من خارج السجن، هذا نصها:

” حبيبي الوحيد، كنتُ بنظرك دائما تلك الفتاة غير المسؤولة، الضاحكة، والتي نادراً ما كنتَ تراها حزينة، أليس كذلك؟ قلتَ لي ذات مرة إنني لا يمكنني أن أكون مضحية يوما ما. أحياناً كنتَ تغوص في أعماقي فترى لمسة حزن خفية في قلبي، لكن سرعان ما تطرد ضحكاتي العالية تلك الأفكار عنك، أليس كذلك؟ أحيانا أخرى ربما كنتَ تعتقد إنني كنت أعبث بمشاعرك أو اسخر منك، أليس كذلك؟ لقد كنتَ مخطأ تماما، أتعلم؟ لا يمكنك أن تقتفي آثار آلام الآخرين بسهولة. فكيف بك أن تدرك المصائب والمعاناة التي كنت أعانيها، ومازلت قادرة على تحملها. كانت حياتي كلها تضحية. حبيبي، لقد كتبتْ أمي في آخر رسالة لها، أن اعتني بوالدي، كان والديّ يحب أحدهما الآخر كثيراً، و مازالوا كذلك، لقد أجبرتهم الثورة على الفراق، كنت أرى أبي مراراً وتكراراً يجلس أمام صورة أمي لساعات ولساعات يفكر فيها، طالما كانت أمي توصيني أن اعتني بأبي وكنت أسعى أن أبعد المصاعب والمصائب عن طريق أبي.

كان أبي يحبني كثيراً وتحمل لأجلي كل مصائب الدنيا. لم يكره أبي أحداً أكثر من رجبوف، لكن بسبب حبه لي كان يتحمل تلك المصائب بضمنها رجبوف. لقد ورّط رجبوف أبي في معاملات مشبوهة لأغراضه الدنيئة،

وبهذه الوسيلة تمكن رجبوف أن يجعل حياتنا جحيماً. في البداية كان رجبوف يساعد أبي لغاية في نفسه، كان رجبوف يعرف أبي عندما كانا في روسيا، كان يعمل دلّالاً. لكن في النهاية وبسبب الطمع الذي كان عند رجبوف، أصبحت حياتنا بدون مساعدة رجبوف غير ممكنة.

فضلاً عن ذلك كان رجبوف يعمل وفقا لمصلحته، ما أصعب تلك الأيام التي تحملها أبي المسكين من أجلي، فمن جانب كان أبي يتحمل لأن رجبوف لم يسيء اليّ، من جانب آخر لم يتمكن أبي أن يثق برجبوف. و بين هذا وذاك ظهرتَ أنت في حياتي. حبيبي كنت أتمنى لو لم تأتِ. لقد أحييتَ في حياتي نور الأمل، ذلك العشق المكبوت، العشق الذي لا يعلم به أحد حتى مارفينكا، ذلك العشق الذي كانت ناره أقوى من أية نار، ذلك العشق الذي أعطاني الأمل، كنت مستعدة مثل تاتيانا لأن أضحي بعمري تحت قدميك، لكني كنت متأكدة من أنك لن تقبل بهذا، أليس كذلك؟ الا أنني وجدت طريقة أرضي بها خاطر أبي. قلت له يوما أني مستعدة لقبول الزواج من رجبوف، لكن أبي كان دائما ما يؤجل الموضوع، لأنه لم يكن متأكدا من رغبتي بذلك. كان يوم الجمعة، اليوم الذي كنا قد أخبرنا فيه رجبوف إننا سوف لن نكون في البيت، وأننا مدعوون عند أحد أصدقاء أبي، لكن بعد ما خرجتَ من بيتنا، كان قد رآك. في تلك الليلة وعلى الرغم من إن أبي كان مريضا تحدث معه بشأني وأصّر أن نعلن الخطوبة للجميع بظرف أسبوع أو عدة أسابيع، وأن نقيم حفلا بالمناسبة. في تلك الليلة حصلت الجلطة القلبية لأبي، وكنت على يقين أن أبي لن ينجو من تلك الجلطة ثانية، وسيلزم الفراش بعدها.

كنت أفكر أن أخلص أبي من هذا الظلم، وأن أُقدم على قتل أبي ثم نفسي، لقد هيأت الأمور اللازمة لهذا الأمر يوم السبت، كنت أريد أن أضع اسطوانة dance macabre ونموت سوياً. كنت أهيأ مستلزمات ذلك الأمر عندما وصل رجبوف. في ذلك الموقف لم أكن مستعدة لتحمل رجبوف. في البدء طلبت منه الخروج من المنزل ثم أمرته بذلك، كان يتحدث عن العلاقة التي كانت تربطني بك، لقد أهانني ثم اعتدى عليّ بالضرب، كان يهم بالاعتداء عليّ، لقد كان ثملاً. هددته بعصا أبي الغليظة و أخرجته من الغرفة،

 عندما وصل إلى الرواق أخفته بالعصا فهوى أرضا من السلم. أنزلقت قدمه وهوى رأسه على حافة السلم. حبيبي، أنت تعلم بقية ما حدث، كان يستحق ذلك، لذلك أنا أخبرك بالقصة، أليس كذلك؟ مات أبي، لكن صفحة تضحيتي لم تمتلئ بعد، لم أجرؤ لحد الساعة أن أخبر والدتي بما حدث من موت أبي. لقد جاء دورك أنت، أكتب لأمي بكل ما حدث لي ولأبي، أخبرها بأني ابنتها الوفية وأني قادرة على التضحية أيضا.

 كنت أود برسالتي هذه أن أخبرك بأنه لا يمكنني أن أتحمل وجودك في السجن أو أن تموت، وأن أعيش في الحياة بدون هدف أو مقصد أسعى لتحقيقه. ربما إذا علم القضاة بحالي وأوضاعي لن يحكموا عليّ بالإعدام، إذن ربما سأخرج من السجن بعد عشر او أحدى عشرة سنة. سوف أحبك وسأعيش بحبك. وإذا متُّ فسأموت امرأة سعيدة. هذا قراري، سأبلغ الشرطة بهذا.

ماركريتا.”

بعد عدة أيام، ذلك الشخص نفسه الذي نادى باسم مرتضى و أذن له بالخروج من السجن، نادى باسمي وجلب لي مقدار من الطعام وقبعتي كذلك، في المكتب الذي وقعت فيه وصل الاستلام، كان مكتوبا عليه :” المرسل … مرتضى ف.”

بعد عدة أيام أُخر، جلبوا للسجناء المال. عندما كان أحد رفاقي في السجن يقلب الوصولات بحثنا عن وصله صادف أن اختلطت الوصولات مع وصولات سجن النساء، وجد وصلاً مكتوباً عليه:” اسم مستلم الوصل … ماركريتا.”

 

 

أنتهى

 

 

[1] نوع من أنواع الغناء الإيراني الشعبي . المترجم

[2]  ألكسندر بوشكين أمير شعراء روسيا، ولد في موسكو في 6 يونيو عام 1799م. نشأ في أسرة من النبلاء كانت تعيش حياة الترف. كان والده شاعرًا بارزًا فساهم ذلك على إنماء موهبته الشعرية. ترجع جذوره إلى أصول حبشية. والدته ناديشد أوسيبافنا كانت حفيدة إبراهيم جانيبال أفريقي ومن الضباط المقربين لدى القيصر بطرس الأول، ورث بعض الملامح الإفريقية، حيث إمتلك شعرا أجعد، وشفتين غليظتين. مؤلفاته -“زنجي بطرس الأكبر”. -قصيدة 1820 “روسلان ولودميلا”. -“أسير القفقاس” (1822)، و”نافورة باختشي سراي” (1823)، و”الغجر” (1824)”بوريس غدونوف”. -1828 قصيدته الوطنية الملحمية “بولتافا” -قصيدة “الفارس النحاسي” (1833). -1830 روايته الشعرية “يفغيني أونيغين” – “التراجيديات الصغيرة” ودراما أسطورية “عروسة الماء”، وقصيدة “بيت في كولومنا”، “قصص بيلكين”. -“ملكة البستوني” عام 1833 -“دوبروفسكي” عام 1841 -“ابنة الآمر” (1836) المترجم.

[3] معاهدة ميونخ أو إملاء ميونخ كما يحلو للتشيك والسلوفاك تسمية هذه المعاهدة لغيابهم عنها، هي اتفاقية تمت في ميونخ في 30 سبتمبر 1938 بين ألمانيا النازية، وبريطانيا، وفرنسا وإيطاليا وافقت فيها القوى العظمى على إشباع أطماع أدولف هتلر التوسعية في أوروبا. وكانت نتيجة هذة المعاهدة تقسيم تشيكوسلوفاكيا بين كل من ألمانيا، بولندا والمجر. المترجم.

[4]  اسم مدينة. المترجم.

[5] رواية شعرية للشاعر الروسي بوشكين. المترجم.

[6]  بوشكين: أمير شعراء روسيا، ولد في موسكو في 6 يونيو عام 1799م. نشأ في أسرة من النبلاء كانت تعيش حياة الترف. كان ولده شاعرًا بارزًا فساهم ذلك على إنماء موهبته الشعرية.

ترجع جذوره إلى أصول حبشية. والدته ناديشد أوسيبافنا كانت حفيدة إبراهيم جانيبال أفريقي ومن الضباط المقربين لدى القيصر بطرس الأول، ورث بعض الملامح الإفريقية، حيث إمتلك شعرا أجعد، وشفتين غليظتين، مؤلفاته: -“زنجي بطرس الأكبر”. -قصيدة 1820 “روسلان ولودميلا”. -“أسير القفقاس” (1822)، و”نافورة باختشي سراي” (1823)، و”الغجر” (1824)”بوريس غدونوف”. -1828 قصيدته الوطنية الملحمية “بولتافا” -قصيدة “الفارس النحاسي” (1833). -1830 روايته الشعرية “يفغيني أونيغين” – “التراجيديات الصغيرة” ودراما أسطورية “عروسة الماء”، وقصيدة “بيت في كولومنا”، “قصص بيلكين”. -“ملكة البستوني” عام 1833 -“دوبروفسكي” عام 1841 -“ابنة الآمر”  1836. المترجم.