الشيطان … الشيطان

بزرگ علوی

ترجمة د. عبدعلي كاظم الفتلاوي

الشيطان … الشيطان

للكاتب الإيراني: بزرگ علوی

 

“هنالك شيطان آخر، بعينيه المسمومتين

يسمى “زينكاو” ، كان قد جاء من قبل الغزاة

(العرب) ليحكم في ارض ايران!”

بند هشن [1]

“أنت لا تخجل من ضميرك و نفسك

لا عقل لا إنسانية لا حياء

بهذا الوجه و هذا الشكل و هذا الرأي و الطباع

تأتي طامعا بالملك و التاج”

الفردوسي [2]

 

     الجو حار ٌ ومترب، زحام وجلبة كثيرة، معرضٌ للجثث القذرة، رائحة عرق العباءات العفنة النتنة الوسخة، أنين النساء الإيرانيات، عيون النساء العربيات الباكية، صورة لسوق الكوفة قبل أكثر من ألف سنة….

  الأيادي السوداء النحيفة تمسك بيدها قلادة من اللؤلؤ، العيون الحمر المسمومة تظهر من بين الشعر الأسود المجعد القذر، يكثر التحديق فيهن بدقة.

يبيعون ويشترون الكافور مقابل الملح المر!

يستبدلون الذهب بالفضة!

لا يميزون بين المسك والبعر!

يستبدلون الدنيا بلعقة طعام!!

    دم مراق في الأزقة، دم حار لم يبرد حتى الآن قطعة سجادة طيسفونية تتلقفها الأيدي من يد إلى أخرى. إيراني يريد أن يخطف هذه السجادة. يبقرون بطنه بسكين، ويمضون من فوق جثته، تلك السجادة اشتروها لملك الحبشة بألف دينار.

  قافلة تدخل السوق… الناس يتركون ما في أيديهم ويذهبون. مثل النمل و الجراد يصعدون الإبل، يرمون بالبنات الإيرانيات على الأرض، النساء تنوح وتبكي، يتصارعن بالأيدي مع الرجال. عربي يضع يده على ثدي امرأة ويخرجه من لباسها، بنت يُحكمون جديلتها حول رقبتها كي تموت خنقا، امرأة عربية تطعن ذلك الرجل بسكين من الخلف، الدم مراق في الأزقة. أطفال صغار يسقطون من أحضان أمهاتهم و يغرقون بدمائهم …

سوق الكوفة قبل 1300 سنة بل أكثر…

     نصبت البيوت الإيرانية المآتم، حيطانهم مهدمة لا سقف لها أما العرب فليس لهم بيت أصلا.

     تُسبى النساء الايرانيات، يبيعون بنات القادة الإيرانيين، ألف دينار، مئة دينار، أقل، أكثر، عشرة دنانير، خمسة دنانير، يعدّون بأصابعهم. يصرخون في الزقاق والسوق السياط تدور في الهواء وتنزل على تلك الأجساد الناعمة. أحدهم يلعن اهريمن [3]، و الآخر يريد العون من اهورا[4] . البنات يتحملن ويتجلدن…

       العربي ذو العمامة الحمراء والوجه الأسود وأسنان كأسنان الخنزير الصفراء، العيون المرعبة، بيده السيف ويصيح: ” أعجميه المقببة “

     هذه البنت الجميلة، اسمها ارنواز، بنت كرزوان حارس حدود همدان، كان قد قتل أبوها نفسه كي لا يقع بأيدي العدو، أختطفوها و أوثقوا يديها و رجليها…

    – أعجمية المقببة.[5]

    … كان لارنواز في سوق الكوفة مشترون كثيرون. كل شخص كان يمر من أمامها يريد أن يبتلعها بعينيه. الحارس العربي كان يحرسها بسيفه المجرد، كان لسانه يدور حول فمه. يدير عينيه يمينا وشمالا و يقول: “أعجمية المقببة”

    عربي راعي إبل، أشعث الشعر، ذو أيدي خشنة يشتري ارنواز ويدفع النقود، يعطي حبة لؤلؤ لكنه قليل بحقها. يُعطي الذهب، ليس للذهب قيمة. يُعطي الفضة، أنه ثمن بخس. يعطي أبنه عبداً ثمناً لها.

 

 

سوق الكوفة قبل 1300 سنة أو أقل.

     بنات العجم يعرضونهن للبيع في الأسواق. حجاب عفة الإيرانيات يمزقه الأعراب، فما الذي حدث؟

     حليب الإبل، وبر الإبل، لبن الإبل، بعر الإبل، حقد الإبل يقضي على حضارة الساسانيين التي امتدت مئات السنين!

        تهّبُ الريح، جزيئات البَرَد تنتشر في الهواء البارد، ذراتها البلورية تضئ في ذلك الشعاع الخافت. كانت تتساقط على تلك الخرائب والبيوت المهدمة وتلقي عليها بظلال من الهم والحزن والكدر.

    كانت السماء قد غطّت كفنها الأبيض على خرائب قصور الملوك.

كانت قد كسرت تمثالا كان على قمتها وأسقطته أرضا، كأنها غطته بالثلج من شدّة خجلها منه.

   لا يُسمع صوت آخر سوى صوت الريح. أحيانا يفعل الثلج فعله فأما أن يخرب القصور بثقله وأما أن يُسقط أعمدتها.

    أحيانا تسمع نغمة أنين، صوت ضعيف لامرأة يأتي من بعيد. لكن صفير الرياح العنيف يجعله يتلاشى من جديد. ربما كانت الريح تريد أن تستنهض أحدهم للقيام بمهمة ما، في الوقت الذي كانت تفتح فيه نافذة باب الكوخ الذي كان قريبا، وتتبين الأعمدة المتهدمة ذات النقوش الجميلة وهي تختبئ تحت الثلوج، تبرق الدنيا وتلقي بحيرتها على العيون. الظلام من جديد، ظلام موحش مخيف مرعب يحتضن السهل.

   داخل الكوخ، أشخاص منهكون، يرتسم الحزن على وجوههم، يجتمعون حول النار، يواسي بعضهم الآخر، كانوا يعاتبون الزمن، تلاعب الريح التي تتسرب من فتحات الجدار الخشبي وتحيل شعلة نارهم إلى راقص محترف والدخان إلى أشلاء متناثرة في الهواء.

 كأس مملوء من شراب ” ماء مرو” تتناقله الأيدي ويفرغ من جديد.

   أحدهم ذو لحية بيضاء و جسم منحن يضع يديه على خشبة سميكة كانت قد وضعت قرب النار، كان متكئا ينظر لشعلة النار الراقصة، كان يقول: ” منذ اليوم الذي جاءوا فيه، مات الصدق والمروءة والمحبة وأنتشر الكذب. وأصبحت الغلبة للشيطان والوحوش. خربت المزارع، أجدبت الغابات… أنظروا، ماذا بقي من همدان، تل من التراب، الخراب … كل شيء قبيح وسيء لم يكن لائقا حتى البارحة. أصبح اليوم قانونا بأسماء ورسوم متعددة… شعلة النار بدأت تخفت وبدأ الجو يبرد من جديد.

      زراوند بوجه يعتصره الألم، جَلَبَ حزمة الحطب من زاوية الكوخ وألقاها فوق النار. كان يكسر بساعديه القويين عيدان الحطب القاسية، أرتفع الدخان الكثيف ثانية، نفخ النار حتى أستعرت، ثم بدأ يدفئ يديه قرب النار.

    كرانبا كان جالسا بين العجوز ذو اللحية البيضاء وزراوند، كان يتصرف بغرابه فهو يقوم بين الفينة والأخرى، كان يفتح كوّة الباب ويلقي بنظره خارجاً، ثم يرجع ثانيةً ويعود جالساً في مكانه. دخل الكوخ فزعاً، كان يتكلم بصوتٍ خافت داخل الكوخ. لكن وجهه المخطوف وعيونه المرتعبة تدل على أن شيئاً فضيعاً قد حدث

توقف فجأةً وقال: “لا يوجد أي إيراني، الجميع فرّوا ورحلوا، ما هذا البلاء الذي حل بنا! مجموعة من الأوباش المتوحشين يخربون، ينهبون، يقتلون، يأسرون.”

 

 قال الرجل العجوز: ” كلا فالأمر ليس كما تقول، إيران لن تكون أسيرة تحت وطأة الغزاة، لقد كان اليونانيون والرومان مع ما كان لهم من العلم والكمال، همجاً رعاعاً مقارنةً بنا، إيران هي للإيراني، إن الحرب بين إيران والغزاة (أي العرب) هي كالحرب بين اهورا[6] و اهريمن[7]. فكيف لاهريمن أن ينتصر على اهورا؟ اهورا هو الخالد، هؤلاء الغزاة هم أبناء اهريمن والوحوش لقد قرأت ذلك في كتب الأسلاف مرات ومرات. لكن اهورا حتماً سينتصر في هذه المعركة، فإيران هي للإيراني.”

شرب الرجل العجوز كأس شراب ” نهر مرو” برشفة واحدة وصاح الجميع معه بصوت واحد:” إيران هي للإيراني”.

برقت عيونهم، وأتقدت شراراً، سكتواً جميعاً.

أنحنى زراوند أكثر باتجاه النار وبعد صمت لبرهة من الزمن قال:” آه ، ما اصدق كلامك، إنهم الشيطان بعينه. مَنْ رأيتهم لم يكونوا إلا الشيطان و الغول ولا يليق بهم غير هذا.

ومنْ يأتون منهم إلى هنا فأرضنا هي التي تجعلهم آدميين، وما يأسرونه منا ويقتادونهم هم الذين يصلحون نسلهم ويجعل وجوههم مقبولة.”

كرانبا يسأل:” إذن لم لا تحدثنا عن أسفارك؟”

  • ماذا أقول لكم! ألا يكفي أن أراهم. الغازي يعني النكبة، يعني التوحش، يعني إراقة الدماء، السرقة، التخنث وآلاف الصفات الوحشية الأخرى، هذا ما تدل عليه تقاليدهم وسجاياهم.
  • لكن لماذا ذهبت إلى الحجاز؟

كأنه يتصور أن ذهاب رجل عجوز إلى الحجاز ذنب لا يغتفر.

أجاب زراوند :”لقد حملت كتاباً من كرزوان حارس حدود همدان لغرض التجارة في بغداد، وكانت خطيبتي برفقتي، أعترضني الغزاة في الطريق و أخذوا الكتاب مني، ولأنهم لا يجيدون القراءة والكتابة ظنوني جاسوساً. أسروا خطيبتي. حاولت بما أوتيت من قوة أن أخلصها من براثنهم، لكنني جرحت في المعركة، ليتني متّ وكنت ترابا!”

سمع كرانبا صوتاً في الخارج. ذهب باتجاهه، فتح كوة الباب، غطى الثلج رأسه  ووجهه.

شخص آخر كان جالساً في زاوية الكوخ وحتى الآن لم ينبس ببنت شفه، في النهاية نهض من جلسة القرفصاء، لقد كان مراسلاً قبل هجوم الغزاة وكان زراوند قد عرفه منذ ذلك الزمان. سأل:” اخيراً ماذا فعلوا ببنت كرزوان، حارس حدود همدان؟ ألم تكن ارنواز خطيبتك؟ نعم، أظن ذلك، هو كذلك، ارنواز كانت خطيبتك.”

-نعم، أشتراها أحد رعاة الأبل، عندما كنت منهمكا بقتال الغزاة ضربني أحدهم بسكين من الخلف، فسقطت أرضا. أَركبوا ارنواز البعير … آآآآآآآه، عندما أرادوا أن يبيعوها، صاحوا:  بنت ايرانية ذات الخال. ارنواز كانت بنت كرزوان، حارس حدود همدان، كانت خطيبتي. باعوها بألف دينار. عندما أرادت أن تمر من أمامي، رمت بنفسها من البعير الى الارض. أخذتها بحضني، كانت يداها موثقة، قالت شيئاً، فلم أسمعها.

ضربها الغزاة بالرمح على وجهها، أَركبوها البعير من جديد. آآآآآآآآآآآآآه، لا يمكنني الحديث…

 نهض كرانبا وذهب من جديد صوب الباب. كان الكوخ الملجأ الليلي لهم، لهذا كانوا مفزوعين.

قال:” أقبل علينا سوادا”

-اجلس فما شأننا؟

قالها الرجل العجوز بتجلد.

المراسل القديم زمان الساسانيين، تسائل :” ألم تَرَ ارنواز ثانيةً؟”

-كلا، لقد بحثت عنها في كل مكان، لكن دون جدوى أنا أعلم أنها كسائر الايرانيين حائرة ومفجوعة.

فجأة طرق أحدهم الباب وصوت طفل يُسمع من خلف الباب.

-أفتحوا ، أفتحوا.

صوت الطفل المرعوب أَفزع الجميع. هَرَع زراوند من مكانه وذهب صوب الباب خبطت قدمه السرير أثناء مشيه سقط على النار. أنطفأت شعلة النار، وساد الكوخ الدخان الكثيف.

-مَن أنت؟ وماذا تريد؟

-الستَ ايرانياً؟ أينَ بيت كرزوان؟ أمي تحتضر، أعينوني.

فتحوا الباب، طفلٌ في الثانية عشرة من العمر يدخل الكوخ . أخذ بيد زراوند وسحبه خارجاً.

-تعالوا، تعالوا. ساعدوني. أمي تموت.

كان الصبي قد أجهش بالبكاء.

هرع الأشخاص الأربعة خلف الصبي والقناديل بأيدهم. الريح تهب من كل صوب، مخلفة صوتاً رهيباً. والثلج يلفح وجوههم، والصبي يهرول أمامهم. أخذه زراوند بحضنه. كان يبكي بمرارة قائلاً : ” أمي . أمي! “

كرانبا يذهب صوب العجوز المراسل ويقول : ” لقد رأيت هذا الصبي مع امرأة في المدينة.”

لم يجب الشيخ العجوز، يمسح بقايا الثلج من على لحيته.

يسأل كرانبا: ” هل رأيت ارنواز ؟”

-نعم، لها خال اسود طرف شفتها. اذا رأيتها اليوم سوف أعرفها!

-أنني أعتقد أن هذه المرأة هي نفسها ارنواز. لأن لها خالاً في طرف شفتها.

كانت المرأة ملقاة على الارض على مسافة مئة خطوة من باب الكوخ وهي مغطاة بالثلج. ألقى الصبي بنفسه على أمه، وأخذ يهزها باكياً : ” أمي ، أمي!”

رفعوا الصبي عن جسد أمه. أراد زراوند أن يشعل القنديل ثانية لكن الرياح كانت غاضبةً جداً. حمل كرانبا تلك المرأة. وهرول زراوند مع الصبي تجاه الكوخ. سأله في الطريق: ” ما أسم أمك؟”

-ارنواز!

يحتضن زراوند الصبي بقوة. أصبح مذهولاً، كان قريباً جداً، حاله لا يسر أحد، لكنه لم يصدق ما رأى، لا، أنها ليست ارنواز التي بيعت في سوق الكوفة، هل هذا الصبي ابن ذلك راعي الأبل؟ كلا ، مطلقاً، مطلقاً، أراد أن يرمي الصبي أرضا ويرحل، كأن الصبي الذي يحمله أبن الشيطان. أشعل النار و دفّأ الصبي.

أنزل كرانبا المرأة على الارض. عندما نَظَرَ زراوند الى المرأة، ووقع بصره على الخال الذي كان في طرف شفتها، صاح “ارنواز!” تيبس في مكانه. تجمدت عيناه وخرس لسانه من عجب ما رأى.

ساد جو من السكوت على الجميع، تسمّرتْ عينا زراوند في وجه ارنواز كأنما كان يريد أن يوقظها بعينيه.

سقوها شيئاً من الشراب، فتحت عيناها ألقت بنظرها نحو أرجاء الكوخ. ثم نظرت بعينيها المرهقتين الى زراوند، عرفته، احتضنت ابنها وتبسمت. لم يعتد هذا الوجه على هذه الابتسامة. ربما لم تبتسم هذه الابتسامة لسنوات عديدة.

-احملوني الى بيت أبي.

… قالت ثانية: ” أريد أن أودع ابني عند أبي. خذوني الى بيت أبي.”

قال كرانبا : ” أنه بيت والدك.”

-هذه الخربة؟

صوت الريح المهيب القادم من كوّة الباب أضاف جملته. ارنواز سألت من جديد: ” لكن اين أبي؟”

-لقد قتل نفسه لكي لا يقع بيد العدو.

تحركت ارنواز بصعوبة. بدأت ترتجف، فتحت عينيها، وحركت رمشيها، وألقت ببصرها نحو زراوند قائلةً : ” زراوند!”

-عزيزتي؟

-اذا كان حناني باق في قلبك، احتفظ بولدي هذا، أنه أمانتي لديك، كانت أمنيتي أن أعود الى ايران، أموت هنا، وولدي يصبح ايرانيا، لم يدور بمخيلتي يوم أن أنجب من تازي (عربي)، اثني عشرة سنة وأنا اعيش مشردة.

أنزل أبنها أرضا … لقد أستسلم للنوم. البقية كانوا يستمعون. النار بدأت تخفت شيئاً فشيئاً. واحدة من القصور نصف المهدمة سقطت أرضا فأحدثت صوتا مهيبا وصل الى مسمع الجميع.

-زراوند، أنا راحلة، ميتة، أوصيك بولدي خيراً. يجب أن يصبح ايرانيا.

أغلقت عينيها!

-في بيت أبي… في أرض ايران…

أنعقد لسانها. أنطفأت النار. القوا غطاءاً على الصبي…

 

*****

مرت السنون…

مازالت الحرب بين العرب وايران قائمة.

ذلك الشيطان الموعود ذو العيون المسمومة جاء الى ايران ليحكم فيها.

زراوند كان جالسا على السرير متربع القدمين واضعاً يديه تحت حنكه، كان الجو باردا قارصا. كان نور الشمس باهتاً، في زاوية فناء البيت امرأة كانت واقفة. جدائلها معقودة كانت تلبس الحرير، تضع يدها على اليد الاخرى تحدق في الماء.

 جبهتها معقودة الحاجبين، أمامها كرانبا طويل القامة يلبس قبعة جلدية شعره المجعد يخرج من تحتها، كان ينظر مرة الى المرأة ومرة لزراوند. تلك المرأة التي كانت جالسة في فناء الدار هي بنت كرانبا كانت قد تزوجت قبل ثلاث سنوات من كرزوان ابن ارنواز.

قال كرانبا : ” زراوند. لا تفكر جزافا. يجب أن نفر من هنا سريعا. لا فائدة من بقائنا هنا. عندما خرجتما أنت و بانو من الدار، جاء عدد من الرجال في طلبكم و هم يحملون الرماح، وقد أشرت اليهم بأنكم هربتم من المنزل .”

– لن أرحل من ايران، الا أن يحملوني جثة هامدة، أنا لا أخاف الغزاة، لكن ما يحرق قلبي شئ آخر.

-أنت تعلم، اذا وقعت بيد الغزاة سوف تقتل، كل من كان في خور آباد، هربوا ورحلوا!

يقوم زراوند من مكانه و يقصد كرانبا قائلاً: ” ليس خوفاً، لكن أمنيتي أن أموت فداءاً لايران. لكن ما يحرق فؤادي أن لا يبقى أحد منا. و بذهابنا ستذهب ايران أيضا وعندذاك ستكون مسرحاً للغارات والسلب والنهب. نحن عدة أشخاص ليس أكثر وأنا لا أعلم ولا أصدق من هو أكثر جرماً منا. من الذي أفشى مكاننا في خور آباد إلى الغزاة؟ وأنت تعلم أنه لا يمكن لأحد أن يجد مكاننا بسهولة. نحن لحد الآن لم نخرج من البيت فكيف لهم أن يقتفوا أثرنا. من الذي أفشى سرنا؟ من منا فعل هذا العمل؟”

زراوند يضغط قبضتيه بقوة و تكاد عيناه تخرج من محجريهما غضباً ويأخذ فناء البيت ذهاباً واياباً.

كرانبا يسأل: ” من هو؟”

بانو كرزوان يسأل: ” من هو؟”

هذه الجملة صعقت بانو كرزوان ، وجنَّ جنونها فجأة و قامت من مكانها

وقالت: ” لماذا نسخر من أنفسنا؟ كلكم تعلمون من هو المذنب. وهو ليس منا. هو بذرة وتركة العرب. هو الشيطان. الذي جاء من ذلك الوجه الأسود والشعر المجعد. نحن لا نقول الكذب. نحن لسنا الشيطان. الشيطان هو الذي و ضع بذرته فينا. شيطان العرب هو الذي جرّنا الى هذا المصير البائس. يجب أن يُقتل. يجب أن نقضي عليه. الإيراني لا يقول الكذب. الايراني ليس منافقاً. أن الدم العربي القذر يجري في عروقه. الفكر (الغازي) العربي. النهب والسرقة. صفة الشيطان. الشيطان هو العرب. ثلاث سنوات وأنا زوجته. لم أرَ إلا الخيبة والخسران. عيناه المسمومة الطامعة، يديه السوداء القذرة، كلها صفات الشيطان. كلا. انه لا يحب إيران. هو جاء من تلك الخيمة التي في الصحراء. أنه لا يحب ماء وتراب هذا الوطن. أنه ليس منا. لقد تشبع بتراب ورمال الصحراء. قلبه حاقد. أنه الشيطان. الشيطان. الشيطان!”

-كُف!

         المرأة تصرخ. أسكتها زراوند. كرانبا كان ينظر نظرة انتصار. سكت الجميع برهة من الزمن. زراوند يذهب زاوية الفناء و يضع حنكه على يديه ثانية. المرأة تجلس على المصطبة. الجميع يعلم أن كرزوان ابن ارنواز هو صنيعة العرب، لكن لم يصدق أي أحد منهم.

يقول زراوند في نفسه:” لم أكن أصدق… كرزوان هو ابن ارنواز؟”

-لا، كرزوان ابن الغازي راعي الأبل، آكل الجرابيع، ساكن الخيمة، الشيطان القذر بعيونه المسمومة، كيف لم تصدق؟ ألم تعلم؟ أن لا شيء أسوء من الغازي (العربي)، ألا تعلم أن لا أشنع في ديننا من الاجرام والاساءة للآخرين، ألم يسرقوا و ينهبوا؟ ألم يقتلوا، ألم يأكلوا مال الفقراء؟  أجرمٌ أن يكون الأنسان ايرانيا؟ بإسم هذا الدين الجديد، أية قذارة ونجاسة قبيحة في هذا الدين لم يقترفوها؟ اذن كيف لم تستطع أن تشك بكرزوان؟ أنت كنت تعلم وأنا كنت أعلم ما تعلم، أنت المذنب لأنك تعاطفت مع الشيطان! تعاونت معه وأصبحت شيطانا، لقد سئمت منك، لِمَ لَم تطرده من بيتك؟ لِمَ لَم تقتل الشيطان؟ هذا الشيطان الغازي (العربي) الذي كان سبب كل نكبه وبلية.

لكن طفح الكيل من هذا التخاذل! أنا سئمت العيش مع هذا الشيطان، سئمت.

كانت المرأة تبكي، وتنوح، هزّها كلام زراوند من أعماقها.

كرانبا كان يجلس في الزاوية، متكئا على قبضة سيفه.

-ألم تكن وصية أمه؟

-أية وصية هذه؟ بأي مكافأة يكافئ أمه، ألن تكون روح أمه سعيدة بأن تخرج هذا الصبي من بيتك وتخلص الايرانيين من شره؟

قال كرانبا: ” أمه كانت تأمل أن يصبح ايرانيا، لكن حتى الايرانيين لم يسلموا من صفاته الشيطانية، لأنهم سوف يصبحون غزاة (عرب).

زراوند يطأطأ برأسه ارضا، ويخيم السكوت على الجميع.

فجأة يدخل عربيان الى فناء المنزل. كان وجهاهما أسودان، متربين ورقبيتيهما قذرتين، أحدهما يرتدي عباءة وَبَرية، وعلى رقبته شال أخضر. وكان يلف على رأسه قطعة قماش أخضر من الحرير – حتما كانت في يوم ما حجابا لأحدى البنات الايرانيات – حافي القدمين. أما الآخر فكان يحمل الرمح في يده، أعور العين وينظر بكل قبح وجسارة بعينه الأخرى. شفتيه العريضتين الغليظتين عندما يضحك تراه كفم كلب يلهث عند القصاب، كانت يداه ملطختين بالدماء وكان على شاله بقع لدم جديد لم يجف بعد. يقفز زراوند من مكانه و يقف أمام بانو كرزوان، العربيين الغازيين يتفحصون بأعينهم كل مكان في المنزل و يسأل أحدهم: ” من هو زراوند؟”

زوجة كرزوان و قد جن جنونها :” أرأيتم آخر ما فعله؟ خرج من هنا منذ الفجر ولم يعد الينا… من أرسلكم الى هنا؟ ومن دلكم على هذا البيت؟ كرزوان؟ أليس كذلك ، كرزوان؟”

دفع زراوند وتقدم. الغازي (العربي) السفاح، يشمر عن ساعده، زراوند يدفع يده، وبسرعة يخرج العربي الأعور سوطاً من تحت عبائته ويضرب زراوند على وجهه. كرانبا يسل سيفه، يدخل غزاة (عرب) آخرون الى فناء المنزل، و يبتدأ العراك.

يعود كرزوان الى المنزل كان كرانبا يقاتل العرب بسيفه يمينا و شمالا، يُجَرح زراوند و يسقط أرضا. ويسيل دمه. بانو كرزوان تلقي بنفسها على زراوند لتضمد جراحه، تحل القماش الحريري الذي كانت تلف به رقبتها لتربط بها جراحه، تسقط ظفائرها الطويلة على كتفيها يمد العربي يده ويمزق قميصها. كان العرب الغزاة المتوحشين يضحكون…

تغطي ثدييها بجدائلها وتخفي رأسها بين ركبتيها. في هذا الوقت يأتي اليها كرزوان. عندما رأت المرأة زوجها جن جنونها، و بدأت عيناها تشتعل شرارا وقالت فجأة: ” الشيطان! الشيطان! ابتعد! ابتعد! أنا لا أطيقك. أنت الشيطان. أنت أسوء من هؤلاء الغزاة ( العرب)، ابتعد لا أريد أن أراك.”

أراد كرزوان أن يسحب يدها ثانية. صرخت بانو: ” أبي، أنقذني من هذا الشيطان .”

لكن في هذا الوقت، عندما أراد كرانبا أن يأتي صوب ابنته، طعنه عربي بسكين في خاصرته، ويبعجه الآخر بالسيف فيمزق بطنه.

عندما سمعت بانو صرخة والدها الأخيرة وبحركة واحدة تأخذ السيف من يد زراوند العاجز وتغرسه بصدر زوجها.

 الدم يتدفق كالنافورة …

الغزاة (العرب) كانوا يضحكون ثم أوثقوها كتافاً…

كانت بانو تصرخ: ” قتلت الشيطان، قتل الشيطان…”

هذه المجازر حدثت قبل 1300 سنة أو أقل … خمس وعشرون سنة بعدما بيعت ارنواز في الكوفة وبعد 13 سنة ماتت ارنواز في قصر أبيها … في نفس ذلك الوقت جاء الشيطان بعينيه المسمومتين الى أرض ايران ليحكم فيها …

النهاية

[1] بند هشن : كتاب كتب باللغة البهلوية في المائة الثالثة للهجرة ، و هو يعني بداية الخليقة . ويكبيديا.المترجم.

[2] الفردوسي : الشاعر الإيراني المعروف صاحب الشاهنامة. المترجم.

[3] الشر كما ورد في الاوستا الزرادشتية و الذي يسعى للقضاء على الخير. وكبيديا . المترجم.

[4]  اسم الله الواحد في الديانة الزرادشتية. وكبيديا. المترجم.

[5]  هكذا وردت بالقصة و ربما يقصد الإيرانية ذات النهدين الكبيرين سخرية منها أو لأغراء الآخرين بها . المترجم.

[6]  أهورامزدا هو الاله  في النصوص الايرانية القديمة.

[7] أهريمن هو الشيطان .