زمنُ الظلامِ ، والرذيلةُ والآثامِ … عصرُ الظُلمَةِ الحالِكَةِ وَعِبادَةِ الأَصنامِ … سوادٌ يُخَيِّمُ على أهلِ الأرضِ، غُيِّبَتْ فيهِ وجوهاً للمعاني والأخلاقِ والقِيَم، ونـُحِرَت على أعتابِ الجاهليَّةِ الآداب  والفضائلِ … فانغَمَسَت النفوس في لُجاجِ الجاهلية، وعُباب العصبية … زمنٌ إِنطمَست فيهِ أنوارُ الرِّسالاتِ السماوية،  لِتؤَدَ الأنثى في حُفرِ  الإستِكبارِ، هروباً من العارِ  … ولتُقامَ بيوتَ الأُنسِ تَعلوها الرايات ، فيُنسَبُ المولودُ قِراعاً بينَ السادات.

      فكانَ القومُ بحاجةٍ الى مَن يُخرجُهمْ مِنَ الظلماتِ إلى النور … الى من يُنقِذُهُمْ من الظلمِ إلى العدلِ، فكانت الرحمةُ الإلهيةُ … إذ قال تعالى في مُحكمِ كتابهِ الكريمِ : “وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالمين” … فوُلِدَ البشيرُ النذيرُ صلواتُ اللهِ عليهِ وعلى آلهِ ، متجليةً في وَجههِ الكريمِ الرحمةُ الإلهيةُ العظيمةُ …  فانطَفأتْ نيرانُ الشركِ … وانكَفَأتْ مُتَحطِّمَةً أصنامُ الوثنيةِ … وانهارتْ تقاليدُ الجاهليةِ. فأسدلَتِ الولادةُ الستارَ على العنجهيةِ القبليةِ والعصبيةِ المقيتةِ … وأشرَقَتْ شَمسُ الإسلامِ ، بضوئِها الساطِعِ .

     لا إله إلا الله … الكلمةُ التي أسقطَتْ عروشَ الإمبراطورياتِ والمِلوكِ … والتفَّ حولَها اليقينُ والتوحيدُ، لترتَفِعَ لواءً على ساريةِ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخر. لقد إرتَجَسَ للقدومِ الميمونِ بولادة رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله ِوسلّم ، أيوانُ كِسرى ، فَسَقطت مِنهُ أربعَ عشرة َشرفةً، وخَمَدَتْ نيرانُ فارس ، وَلَم تُخمَدُ قبلَ ذلك بألفِ عام.

(إنّا أرسلناكَ شاهداً ومُبشراً ونذيراً * وداعياً إلى اللهِ بإذنهِ وَسراجاً مُنيراً).

    وقالَ الرسولُ (ص) : (إنَّ لي أسماء: أنا محمدٌ، وأنا أحمدٌ، وأنا الماحي يَمحُو اللهَ بي الكفرَ، وأنا الحاشرُ يُحْشَر ُ الناسُ على قدمي، وأنا العاقِبُ الذي ليسَ بعدَهُ أحد).

     لقد أعلنَ الرسولُ الكريمُ (ص) حقَّ الإنسانِ في الحياةِ الكريمةِ ، والإيمانِ والعبادةِ ، والأَمنِ  والأَمانِ ، وحقَّ المساواةِ ، فأثار َ كلَّ ذلكَ حفيظةَ أسيادِ مكةَ ، ودَفعهُمْ الى التآمُرِ على قتلِهِ ، وإراقَةِ دَمِهِ … فصدَر بذلك الأمرُ الإلهيّ بالهجرةِ الشريفةِ الى يثربَ لتكونَ المدينةَ المنورةَ بضياءِ النبوةِ، ونواة الحضارة الاسلاميةِ، التي وحَّدَت العرب لأوَّلِ مرةٍ على ديانة توحيدية، ودولة موحّدة. نظّمَ (ص) العلاقاتِ بينَ سُكّانِ المدينة المنورةِ، وكتبَ في ذلكَ كِتابًا إِصْطلَحَ عليهِ دستور المدينة أو الصحيفةُ. فكانَ العهدُ الذي أَلزَمَ جميعَ الأطرافِ داخلَ المدينةِ من مهاجرينَ وأنصارٍ ويهودٍ، وتحديدَ الحقوقِ والواجباتِ، وَتحالُفَ القبائلِ المختلفةِ في حالِ حدوثِ هجومٍ على المدينةِ. 

        وقد احتَوتْ الوثيقةُ  بنوداً خاصةً بأمورِ المسلمينَ ، مرتبطةً بالعلاقةِ بينَ المسلمينَ وأصحابِ الأديانِ الأخرى.  فآخى (ص) بينَ المهاجرين والأنصار، ليعلِنَ أنَّ الإسلامَ دينُ سلامٍ وأخوةٍ ، دينُ صفاءٍ ومَحبَّةٍ ، دينُ مُوَدَّةٍ واحترامٍ … دينُ موعظةٍ ورحمةٍ، فاتسمَتْ مواقِفُ المصطفى الأَمينِ بالموعِظَةِ الحَسَنةِ،  والحِكمَةِ الراشِدةِ.

         فكانتْ أحاديثُهُ (ص) كلُّها مواعظ ، أخذَت  مَنـزِلةً عظيمةً في قلوبِ الناسِ،  فجاءَتِ  الموعِظَةُمُتمِّمَةً لمكارِمِ أخلاقِ الأَمّةِ ، وتعزيزاً لمكانَتِهِم في الحضارةِ الجديدة. … مِنَّةُ الحنّانِ المَنان الى الخلقِ  أجمعين ، بالنبيِّ الكريمِ ، فأشرقت الأرض بعد ظُلمَتِها ، واجتمعَتِ الأمةُ بعدَ شتاتِها ، ونَجَت مِن غَياهِبِ ضَلالِها … فقد نشرَ الإسلامُ  قِيمَ العدلِ  والتوحيدِ، وأخمدَ نارَ المجوسِ ودَمَّرَ كبرياءَ اليهودِ ، وَكشفَ ضَلال النصارى … إنَ الدينَ عندَ اللهِ الإسلام.

             هي دعوةٌ إلى تزكيةِ النفوسِ وتقويمِ القلوبِ وإصلاحِ الباطنِ والظاهر للسلوك …  هي هالةُ نورٍ تتوِّجُ أزكى السجايا وأنبلِ الطباع وأحسنِ الأخلاق وأصلحِ الخصالِ … هيَ رسالةٌ أشرقَت بنورِها على الأرضِ فأضاءَت الدنيا بشريعَتِها السَّمحاء … وفتحَت بهُداها البلادَ لتُنشِرِ الحِكمَةَ والموعظَةَ الحسنةَ … لتُنشِرَ الرَّحمة وتوصي بالصِلة … ففَجَّرَت بذلك ينابيعَ العلمِ … وصنعَتْ القادةَ والسادة بمدارسِ الإسلام في شتى أنحاءِ المعمورة. إنَّ هذا الدينَ دينُ الحقِّ، دينُ الفطرةِ … ” فطرةُ الله التي فطرَ الناسَ عليها ” ” أفغير دين الله يبغون “.

     قالَ سيّدُ البلغاءِ والأوصياءِ، أميرُ المؤمنينَ عليّ بنَ أبي طالبٍ عليه السلام: (كنّا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه والهِ وسلم بمكةَ، فخرجَ في بعضِ نواحيها، فما اسْتقبَلَهُ شجرٌ ولا جبلٌ إلا قالَ لهُ: السلامُ عليكَ يارسولَ اللهِ).  

     نبيٌّ هاشميّ، ورسولٌ قَرَشيّ … ونبيٌّ حرميّ مكيّ مدنيّ أبطحيّ تهاميّ حَسَبَهُ إبراهيميّ , و نَسَبَهُ إسماعيليّ .

     اذا قامَ بينَ الناسِ غَمَرَهُم بالقيامِ …وإذا مَشى مَعَهُم كأنَّهُ سحابٌ مُظللٌ بالغَمامِ … لم يولَدْ مِثلَهُ … وقامَ البراقُ إجلالاً لِهَيبَتِهِ… وَنَبَعَ الماءُ من تحتِ أصابِعِه حتى احتاجَ الناسُ منافِعَهُ … وَكَلَّمَهُ الحَصى في كَفِهِ … خاتمُ النبيين …وقائدُ الغُّرِّ المحجَّلين.. وسيِّدُ جميعُ الأنبياءِ و المرسلين… صاحبُ الحوضِ المورود … والمقامِ المحمود … واللواءِ الممدود … والشفيعُ في اليومِ الموعود.

     وفي مُسكِ الختامِ …

     أنقلُ إنطباعَ الكاتبِ اليهودي (مايكل هارت) إذ يقولُ في شخصيةِ نبيِّنا وشفيعِنا أبي القاسمِ محمّد (ص) هو:  أعظمُ الشخصيّاتِ أثرًا في تأريخِ الإنسانيةِ كلِّها باعتبارِه … الإنسانُ الوحيدُ في التاريخِ الذي نجحَ نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيويتركَ محمدٌ أثرًا كبيرًا في نفوسِ المسلمينَ، حتى كثُرتْ مظاهرُ محبّتِهِم وتعظيمِهِم لَهُ، من ذلك الاحتفال بمولده، واتباعُهُم لأمرِهِ وأسلوبِ حياتِه وعباداتِه، وقيامُهُم بحفظِ أقوالِه وأفعالِه وصفاتِه وجَمْعُ ذلكَ في كتبٍ عُرفَتْ بكُتُب الحديث النبوي.