يبدو لأول وهلة أن مقتضيات العولمة لابد من أن تتعارض ومبادئ التنمية المستدامة. فانفتاح الأسواق بعضها على البعض، وتطبيق الاتفاقات الأخيرة لمنظمة التجارة العالمية بعد سنين من المفاوضات المضنية، مع ما تتطلبه تلك الاتفاقات من تحرير جميع المبادلات في السلع والخدمات وإزالة كل أنواع الحمايات المباشرة أو غير المباشرة في الأسواق المحلية، يؤديان إلى إقفال العديد من المؤسسات الإنتاجية التي ليس لها الإنتاجية الكافية لتحمل المنافسة الدولية دون حماية، أو إلى تسريح الكثيرين من العمال والموظفين في القطاع العام والخاص.

ومما لا شك فيه، أن المنافسة الدولية المشتدة بين أقطاب النظام الاقتصادي الدولي أصبحت تؤثر على الشركات المتعددة الجنسيات لزيادة ربحيتها وقدرتها في التنافس الدولي، مما يؤدي إلى  حركة واسعة النطاق لإعادة تنظيم تلك الشركات وتخفيض عدد العاملين فيها وإقفال أو بيع الفروع غير المنتجة بشكل كاف. كما أن أزمة البطالة في الدول الصناعية الكبرى (باستثناء الولايات المتحدة)، أصبحت تأخذ طابعا متواصلا. ويسود الرأي العام في أوروبا وكثير من دول العالم النامي اعتقاد مفاده أن لموجة العولمة هذه عواقب وخيمة على صعيد التنمية البشرية، إذ أنها تلغي المكاسب العمالية، وتضغط على الرواتب باتجاه تخفيضها وتهميش المزيد من القوى البشرية، وتقسم العالم بين قلة مستفيدة من العولمة تزداد قدرة وبحبوحة، من جهة، وغالبية خاسرة ومهمشة ومبعدة عن قنوات الإنتاج والرفاه، من جهة أخرى.

إن تأثير العولمة على الأوضاع الاجتماعية هو قضية معقدة وذات أبعاد تختلف من بلد إلى آخر. ويصعب إعطاء رأي قاطع في الموضوع. فـ ” العولمة ” ليست، في الحقيقة، حركة جديدة، إنما هي تتويج لاتجاه بارز في الاقتصاد الدولي منذ صعود الصناعة الحديثة وتوغلها تدريجيا، عن طريق الاشتراكية أو الرأسمالية، في كل أنحاء العالم. وقد توسعت هذه الحركة أحيانا ببط وأحيانا أخرى بسرعة وانقطعت أحيانا بسبب الحروب الساخنة أو الباردة، غير انه ليس من مجتمع يرفض دخول عالم الصناعة لما يوفره من تقدم ورفاه وتغيير في أنماط الحياة البشرية يصعب البقاء خارجه. وفي المرحلة التي نحن فيها من حركة العولمة، يمكن أن تعزي التغييرات الضخمة التي تؤثر على حجم القوى العاملة ومستوى دخلها في الدول الصناعية نفسها إلى موجة الابتكارات الصناعية الجديدة، خاصة في مجال الإلكترونيات والاتصالات اللاسلكية، أكثر مما يمكن أن تعزى إلى تصاعد اتجاه العولمة نفسه. ويمكن أن تعزى كذلك إلى تضاؤل حصة الدول الصناعية الكبرى في أوروبا وأمريكا في مجال الصناعات والخدمات الحديثة، بسبب تعاظم القدرة الصناعية لدول شرق آسيا ونجاحها في دخول العولمة والحصول على حصة متزايدة من حركة تجارة السلع والخدمات وتدفق الاستثمارات والتوظيفات التي لها طابع دولي.

وتتميز العولمة أيضا بتطوير الأسواق المالية وانفتاح البعض على الآخر وإزالة القيود التي تعترض تنقل الأموال بين عملة وأخرى أو سوق مالية محلية وأخرى. وقد تنوعت أيضا أساليب التوظيف المالي وحماية المستثمر من تقلبات أسعار الأسهم والسندات والمواد الأولية، مما يفتح المجال أمام حركة تدفقات مالية سريعة وعملاقة بين سوق وآخر من الأسواق العالمية المتطورة. ومن هذا المنظور، يمكن أن يكون للعولمة أثر سلبي من ناحية الاستقرار المالي والنقدي في هذه الأسواق المعرضة لهزات عنيفة بسبب تحرير حركة الرساميل وقيام فئة واسعة من المضاربين هدفها الكسب السريع بالتنقل المستمر بين الأسواق المالية المختلفة.

أما في العالم النامي فالعولمة تؤثر، بشكل خاص، من ناحية الضغط الذي تمارسه الدول الصناعية الكبرى لإزالة الحمايات المختلفة التي تتمتع بها المؤسسات الإنتاجية والخدماتية المحلية. ولهذه الحمايات بعض الدور السلبي عندما تستمر لفترات طويلة دون تخفيفها أو إزالتها كليا، إذ تصبح عندئذ عاملا يحول دون تشجيع المؤسسات المحلية على زيادة قدرتها التنافسية من جهة التنظيم واكتساب الملكة التكنولوجية زيادة جودة الإنتاج، مع ما يتطلبه ذلك من إعادة استثمار الأرباح المحققة في المؤسسة بدلا من سحبها للاستهلاك الداخلي أو للهروب إلى الخارج للتوظيف في الأسواق المالية الدولية أو في القطاع العقاري المحلي أو الإقليمي كما هي العادة في كثير من دول العالم النامي.

وقد أصبحت الرساميل التي تنتقل بين الأسواق المالية تبحث أيضا عن فرص الربح في الدول النامية التي تم فيها تطوير أسواق مالية محلية، كما أن الشركات المتعددة الجنسيات أصبحت تبحث عن شراء الشركات  المحلية، سواء أكانت تابعة للقطاع العام ومعروضة للخصخصة أم تابعة للقطاع الخاص، وذلك ضمن إطار استراتيجيات عالمية للسيطرة على قطاعات إنتاج معينة أو زيادة الحصة فيها أو بحثا عن أسواق تكون فيها اليد العاملة رخيصة ومتدربة ومنضبطة.

وللعولمة في نهاية التحليل تأثيرات مختلفة، البعض منها إيجابي والبعض الآخر سلبي، وهي، لذلك، تتطلب أن تواجهها الحكومات العربية بوضع سياسات واضحة المعالم للاستفادة منها عن طريق جلب الرساميل والتكنولوجيات الجديدة، من جهة، وتقليل الأضرار التي يمكن أن تحصل، من جهة أخرى، ولا سيما في مجال البيئة : للحؤول دون حصول المزيد من استغلال الموارد الطبيعية بشكل عشوائي وكذلك في مجال القوى البشرية: للحؤول دون تعرض مستوى الأجور والرواتب للتدني تحت تأثير زيادة البطالة.