المدينة المدورة

     انطلقت الحركة الدؤوبة في ورشة بناء بغداد بمئة الف عامل يشرف عليهم وعلى مطابقة التنفيذ بالخطة مجموعة من المهندسين واساطين الحرفة منهم الحجاج ابن أرطأه كمعمار وبمساعدة أربعة معماريين: هم عبدالله بن محرز وعمران بن الوضاح وشهاب بن كثير وبشر بن ميمون الذي ذكره البلاذرى بان عهد اليه ببناء الطاقات عند باب الشام. أما اسقاط المخطط على الطبيعة فقد ثبته الفلكيون، ثم تلاه نثر الرماد على قطر الدائرة ووضع فوقها كرات من القطن مشبعة بالنفط وأحرقت لتترك اثرها بندب يستدل بها في حفر الأساسات للبناء. وقد استعمل مقياس الذراع واجزاءه حتى الشبر والاصابع بما يدعوا بالقياس البلدي حتى اليوم كنظام لمودول القياسات ، وقد قدر المستشرق الأنكليزي كريزول مقدار الذراع بـ 51،8 سم ويحسب للسهولة عادة بمقدار نصف متر. أما الخطوط الشعاعية للبناء المتجه نحو المركز والتي تحصر بينها أشكال أسفينية لا تلاحظ بالنظر لسعة قطر الدائرة. وعلى العموم فأن قطر المخطط إجمالا قدر بـ 2710 متر.

      وقد استعمل نظام الفرق العاملة بالتوازي في الإنجاز وقد شرع أولا في بناء القصر وعلى تخومه المسجد الجامع، أما الاسوار والارباض فقد قسمت الى أربع قواطع يشرف على كل منها أحد المهندسين. وقد أحتل مركز الدائرة القبة الخضراء التي تغطي قلب قصر الخليفة المدعو قصر باب الذهب والمغطي لقاعته المركزية التي يتناظر من حولها في الاتجاهات الاربع أربعة أيوانات على مثل حال قصر ابو مسلم الخراساني في مرو الواقعة في أسيا الوسطى. وابعاد القصر كانت 200 م مربع وارتفاع القبة كان يسموا الى 40م.أما المسجد المحاذي للقصر من جهة القبلة فابعاده 100 م مربع.

     ويطوق البناء خندق مائي عرضه 6م ينهل ماؤه من نهر كرخايا وبغرض المعالجة لحالة التاثيرات المائية على السور فقد استعمل في الاساس نوع من الملاط خليط النورة والرمل مع الرماد الذي يكسبه خاصية المقاومة المائية. وكان البناء يشتمل على ثلاثة أسوار متتابعة وكان الوسطاني أضخمها واكثرها سمكا وارتفاعاً وتعلوه القبب فوق الطاقات التالية للمداخل الذي يكرس حالة دفاعية ناهيكم عن معالجة بصرية جمالية. ويحيط بكل سور فيصل فارغ من البناء يدور حولها ويساعد في حركة الحرس الدائرية.

    وكان للمدينة اربعة ابواب باسماء البلدان المتجهة اليها وهي الشام والكوفة والبصرة وخراسان والمداخل من النوع المنكسر لغرض الحماية وتعلو كل مدخل قبة باسقة لغرض الاستدلال على المدخل من بعد. وكان للسور هدفين احداها عسكري والثاني لغرض السيطرة على سكان المدينة. اما من الناحية الرمزية فانه فاصل صريح بين المدينة والحقل المفتوح الذي يحيطها والريف والذي ينعكس نفسيا في أطمئنان النفوس والشعور بالامان لسكانها. كذلك يمكن ان يدل علىة نزعة إستبدادية ويجسد هيئة حصن منيع تهب السلطان الامان على ملكه ظاما إليه صفوة شعبه ومصدر ثقته.

     أما المرافق السكنية والخدمية للعامة فتقع بين السورين الاوسط والداخلي وقد خطت على شكل ارباض قاطعية الشكل تحوي ديار من طابق واحد حتى ثلاث طوابق تحيط بحوش سمائي على الطراز العراقي الموروث منذ القدم.  أما مايلي السور الداخلي حتى أسوار قصر الخليفة والمسجد الجامع فياتي تباعا أبتداءً من الخارج قصور الامراء ورجالات الدولة ثم دواوين ومطبخ العامة الذي يتبعه قصور أولاد الخليفة وخاصته.

     لقد كان للطين حضورة في بناء المدينة، حيث استعمل على صيغتين؛ اولها الطوب المصبوب في قوالب والمجفف تحت وهج الشمس والمسمى (الطوب الاخضر المتكون من الطين والتبن). وقد استعمل في بناء الاسوار والاجسام نصف السطوانية الساندة له من الخارج وكذلك الحيطان الساندة لاجزاء البناء الاخرى. اما النوع الثاني فقد كان الآجر المفخور (الطابوق)، والذي كان يستعمل في بناء العقود والطوق والقبوات وكذلك القباب ويوجد نوع من الطوب المحروق الذي يستعمل عادة في تنفيذ الاساسات لمقاومته نفاذية الماء.

 

     وتكمن الحذاقة المعمارية هنا في إختصار استعمال الخشب الى الحد الادنى في التسقيف والسقالات والقوالب الموضوعة لعناصر التسقيف الانشائية ولا سيما في القبوات.ومن المؤكد أستعملت سنة بنائية عراقية تعتمد على إتكاء الطاق على حائط ثالث واصل بين الحائطين الأساسيين الساندين، كما هو الحال في طاق المدائن (طاق كسرى). وهنا تستثمر حالة (الشك) أو الجفاف السريع لخامة الجص العراقي بأقصى مايكون، وهذه الخاصية مازالت شائعة حتى اليوم. وقد استعمل الخشب كذلك في الاساطين (الدلكات) في حرم المسجد واروقته  والمساحات المفتوحة وكانت تعمل عادة من قطعتين معقبتين بالعتب والغرى وضبات الحديد.وهذه الطريقة توارثوها اهل بغداد حتى العمائر الاخيرة. وأستعمل في حينها التاج الناقوسي وهو ما كان شائع في تلك الفترة مثلما وجدناه في سامراء. اما التيجان المقرنصة فقد ظهرت في حقبة لاحقة. استعمل الخشب كذلك في التسقيف بطريقة الجسور الخشبية على بحور محددة والمعقودة بالاجر فيما بينها او جسور اولية مغطاة بجريد النخيل بعدة طبقات منتهية بلياسة طينية للحماية. أما مايتعلق باللمسات الفنية واعمال النهو فاستعمل الجص البسيط والمعالج بالالوان والرسوم والطلائات (الفريسكو) او المنقوش بواسطة الحفر المشطوف.