أنا ومن بعدى الطوفان

بقلم: سناء صليحة

عبارة ظلت تتردد فى أذنى فى محبسى الجبرى الذى لم تخفف من وطأته شمس الأصيل التى ذهبت غصن النخيل التى تغنت بها ثومة ولا انعكاساتها الرائعة على صفحة النيل ولا نسمات عصرية شتوية تنتشى بها النفس.

بدأت الحكاية عندما قررت أن أستغل يوم الجمعة فى قضاء مهام أسرية من بينها إحضار دواء لواحدة من الأقارب أقعدها المرض ورغم أنها كانت ربة لأسرة مترامية الأطراف إلا أن سعى الأبناء وراء لقمة العيش فى بلاد الله جعلها وحيدة وكأنها مقطوعة من شجرة.

استخرت الله وأخذت طريقى المعتاد الذى يكاد يخلو من المارة والسيارات فى أيام الجمعة..لاحظت بعد دقائق بطء حركة المرور..تصورت لوهلة أن السبب تواجد إحدى لجان المرور ومنيت النفس بانفراجة سريعة تعيننى على الانتهاء من مهامى فى وقت مناسب.. لكن كم كنت واهمة.. فلم ألمح على مدار ساعة كاملة أية لجان أو أرى آثارا لحادثة..رغم تجريم استخدام الموبايل أثناء القيادة اضطررت أكثر من مرة أن أرد على مكالمات تستفسر عن تأخرى عن مواعيد حددتها مسبقا،كان أهمها وأكثرها إيلاما للنفس تلك التى جاءتنى من قريبتى الوحيدة..نبراتها المتكسرة ولهفتها فيما كانت تتساءل إذا ما كنت سأفى بوعد زيارتها، ورجائها ألا أتأخر كثيرا لضرورة التزامها بمواعيد جرعات الدواء الذى نفد فى اليوم السابق قطعت حبال صبرى..تلفت يمينا ويسارا فأدركت أننى محاصرة فيما شبه أنبوبا طويلا ممتدة حدوده أبنية متراصة لا سبيل للهروب من بينها وسور حديدى يفصل بين نهرى الطريق.

لم يفلح صوت ثومة ولا شمس الأصيل ولا النيل فى إخماد جذوة غيظ وقلق تملكانى بعد أن توقف زحف العربات وأصيب الطريق بشلل كامل..هاتفتنى صديقتى التى تأخرت عن موعدها ساعتين بالتمام والكمال وعندما حددت لها موقعى على خارطة المحروسة قالت «انسى..السبب عمومية الأطباء فى قصر العيني!!» لم أصدق ما قالته..وماذا فى ذلك؟! لطالما انعقدت عمومية نقابة الصحفيين والمحامين ولم أشهد قط حالة الشلل المرورى التى أصبحت أسيرة لها منذ ما يقرب من أربع ساعات!!.. لا أعرف تحديدا سببا للتكدس المرورى ولا أستطيع أن أتصور أن الأطباء، رُسل الرحمة، أيا كانت مشاكلهم يمكن أن يتسببوا فى شل حركة الطريق بكل ما يترتب عليها من تداعيات ضحيتها مواطن على باب الله»لا له فى الثور ولا الطحين»!! من سيارة مجاورة تناهى إلى سمعى صوت يزفر فيما يقول «يهددوا بالإضراب!! هى الناس ناقصة!!»..لو أن ما يقوله زميل محبسنا الجبرى صحيح فهى الكارثة!! هل أصدق أن أطباء مصر قرروا أن يستبدلوا قسم أبوقراط بشعار «أنا ومن بعدى الطوفان»هل يصلح أن يكون سلوك بعض الأفراد غير الأسوياء ذريعة للتخلى عن المسئولية وتخفيف آلام مريض؟! هل يحاول البعض لغرض فى نفس يعقوب إثارة الضغينة بين مؤسسات المجتمع وإعلاء قيمة الاستقواء وإثبات الذات بغض النظر عن حق الآخرين،لنصل لنفس النتيجة  «أنا ومن بعدى الطوفان» 

أقر وأعترف أننى رغم حرصى على اتباع قواعد المرور وعدم مخالفتى لها منذ جلست وراء عجلة القيادة، ما أن وجدت تقاطعا مروريا مفتوحا غير مسموح  فيه بالدوران للخلف حتى هرعت إليه وانطلقت عائدة أدراجى لأبحث عن طريق آخر لأسلم الدواء.. 

فيما أطلقت العنان لبعكوكتى الصغيرة تداعت إلى ذاكرتى كلمات الشاعر حيرم الغمراوى التى أداها المبدع إسماعيل ياسين قبل أكثر من نصف قرن والتى تناولتها فى مقال قبل عامين تحت عنوان «فُضونا يا هووووه..من أنا..»

تقول كلمات المونولوج أنا.أنا..مين زيى أنا؟!..إيه يعنى أنا!..فضونا يا هووه من أنا…!!هكذا ودونما فذلكة أو تقعر طاردين للمستمع قدم الغمراوى مضمونا فى منتهى الجدية يستحق التأمل..وقتها كتبت بدا لى  وكأن سُمعة والغمراوى يحومان فى فضاء المحروسة ليرسلا لنا بعضا من حكمة ديوجين  وضوء قنديله الذى سار به تحت ضوء الشمس فى  وضح النهار بحثا عن الحقيقة التائهة وعن الإنسان والحق والعدل..فما بين أداء يعكس إحساسا بأهمية الذات يصل لحد النرجسية المرضية ويعكس أنانية مفرطة، ثم تحول فى النبرات يشى بتساؤل حائر يعكس تشككا فى قيمة هذه الذات وأهميتها فى سياق الجماعة والموازنة بين مصلحة الفرد وصالح المجموع، ليصل سُمعة فى النهاية للقول الفصل فى القضية عندما يقول فى بنبرة واضحة«فُضونا من قولة أنا..»

مرة أخرى بدا لى وكأن كلمات مونولوج سمعة تُشَخص مكمن الداء وتصف الحالة التى عايشتها قبل لحظات ومع الأسف يعانى تبعاتها المتعددة آخرون.. تلمس الجرح وتفسر الكثير مما مر بنا وأوصلنا لهذا الكم من المشاكل التى ينوء بها كاهل المواطن البسيط  بل أيضا باتت تهدد الأمن القومى المصرى وربما سلامة المنطقة العربية بأكملها.

فما رأيته اليوم وما سبقه من مشاهد يعكس حالة من الأنانية والفردية المفرطة واستغلالا لمواقف ولسلوكيات معوجة مؤثمة بحكم القانون لتبرير العودة لشريعة الغاب والبلطجة وتجاهل مصلحة الجماعة وتغييب مشاعر الرحمة ومراعاة الآخر وكأن لسان حال كل منا يقول «أنا ومن بعدى الطوفان»!

أنهيت مهمتى بنجاح وتناولت العزيزة جرعة الدواء..فيما كنت أهبط السلم عائدة لبعكوكتى الصغيرة تنبهت أن اليوم انتهى دون أن أنجز أى شيء اللهم إلا زيارة قريبتى الوحيدة..أضاءت مصباح السلم..خايلتنى من جديد صورة ديوجين..

عندما حمل ديوجين مصباحه فى نور النهار كان يبحث عن القيم التى تعلى قيمة البشر وترتقى بهم ليستحقوا اسم «إنسان»..قيم الخير الخالص والحب الصادق والجمال الصافى والعدل المطلق والإيثار لا الأثرة فأين نحن من ذلك فى أتون المطالبات الفئوية فى غمار أزمة اقتصادية خانقة؟!!أين منا هذه القيم وبيننا من يحاول أن يستثير النعرات الفئوية والطائفية والعرقية ويتاجر بألم البسطاء لتحقيق مكاسب خاصة أو يغامر بحاضر وطن وبمستقبل أجيال قادمة طمعا فى منصب أو شهرة أو مكاسب مادية أو سياسية؟! 

 

فى طريق عودتى لاحقتنى صديقتى المشاغبة لتحيرنى..أيهما سنختار «أنا ومن بعدى الطوفان» أم «فضونا يا هووه من أنا!».