الوقوف في الطابور ثقافة قديمة غرستها القيم اليابانية وعززها القانون. ونحن مثل اليابانيين لدينا قيم مثلى، لكن الفارق في التطبيق. ولدي صورة قديمة لمجموعة من اليابانيين عام 1945 وهم ينتظرون دورهم في طابور منتظم ليصعدوا إلى أحد المراكب قبيل إبحاره، في أيام الحرب العالمية الثانية.
ليس هذا فحسب، بل إن طابور الصباح في المدرسة اليابانية مقدس، وتجد الأطفال فيه يسيرون بانتظام شديد، وكأنهم عسكر في ميدان، فيما نسمع مطالبات عربية تدعو إلى التخلي عن هذا النشاط الصباحي، الذي يغرس في الطفل على أقل تقدير صورة ذهنية لكيفية الوقوف في الطابور بانتظام، فالبعض منا لا يرى طوابير منتظمة كثيرة في بلاده.
الطابور أمر في غاية الأهمية، لأنه يحترم الناس ويجعلهم سواسية كأسنان المشط. والغريب أن هناك من لا يقف في الطابور لأنه ينتظر من غيره أن يلتزم به أولا، وكأنه يريد البيضة قبل الدجاجة! ولا يعلم أنه لو التزم بالطابور جاز له أن ينتقد غيره ممن يتخطونه، بل وبكل حزم! لكننا للأسف الشديد نجد في بلداننا من يغافل الواقفين بالطابور ليتظاهر بأنه يسألك سؤالا (إجابته بديهية)، ثم تكتشف أنه انتصب واقفا أمامك، ضاربا بمشاعر الآخرين عرض الحائط.
والطابور ليس التزاما بالدور فقط، بل فيه أخلاقيات راقية: فلا يجوز أن تتخطى، أو تدفع الناس، أو تدعو إليه من أحببت. كما يفترض أن نفسح المجال في المطار للذين توشك طائرتهم على الإقلاع. ومن غير المقبول أن يغلق الناس الطريق، بحجة الطابور، ولذا لجأت العاصمة لندن إلى وضع مسارات، هي الأولى من نوعها، للمتسوقين في شارع أكسفورد، محاذية لنوافذ المحلات، كي لا يتعطل المارة المسرعون! وليس هذا فحسب، بل إن الإنجليز اشتهروا بأن من يريد التوقف في السلم الكهربائي في بلادهم لا بد أن يقف إلى اليمين ليمر طابور المستعجلين عن يساره! أي تحضر واحترام لوقت الناس هذا؟
أما اليابانيون فيتبعون طريقة جيدة في تخفيف طول الطابور، وذلك بوضع طوابير متوازية تلتقي في نقطة نهائية مشتركة، ولديهم أيضا الطريقة المتعرجة (Zig Zag) مثلما هو الحال في المدن الترفيهية، لأن ذلك لا يعوق الطريق ويقصر الطابور نفسيا على الأقل.