القيم التنبؤية في الفلم السينمائي ” فايروس كورونا انموذجاً”
م.د محمد عبد الحميد ضيدان –جامعة كربلاء –كلية العلوم السياحية
موبايل : 07709659874
E.mail: m.abdulhameed@uokerbala.edu.iq
منذ ان ظهر الفن السينمائي الى الوجود وبعد ان ظهرت بوادره الفنية والفكرية في وقت مبكر , راح ينتشر بسرعة كبيرة في ميادين الحياة المختلفة سواء على مستوى العرض او على مستوى الطرح لموضوعات مرتبطة بحاجات انسانية سواء على المستوى الاقتصادي الفكري السياسي الاجتماعي وغيرها.
والملفت للنظر ان الفلم السينمائي وبما امتلكه من فاعلية في التلقي من قبل المشاهد راح يغزو الحياة بموضوعات جاذبة ومتنوعة قد تنسجم مع واقع الحياة اليومية الحاضرة او ما شهده العالم من حوادث ماضية تمثلت في الافلام التاريخية او بما يطرحه من موضوعات تمس قضايا المستقبل والتي ترتبط عادة بالاستشراف سواء كان هذا الاستشراف من النوع التفاؤلي الذي يتيح للإنسان بأن يتأمل عالم جديد ينعم بالرفاهية والتقدم التكنولوجي والاقتصادي والاجتماعي , او هو نوع من الاستشراف التشاؤمي والرؤية السوداوية الذي ترى بأن العالم مقبل على ايام عصيبة وانه سائر الى المجهول وان التقدم الاقتصادي والتكنولوجي ما هو الى بداية هذا الانحدار والتراجع .
وهذا الطرح للموضوعات على كلا الاتجاهين استوعبه الفلم السينمائي وقدمه بنماذج اصبحت فيما بعد من اهم الموضوعات المثيرة للمشاهد واكثر فاعلية في جذبهم لشباك التذاكر وهذا يرجع لأسباب عديدة , منها قدرة السينما بما تمتلكه من ادوات تعبيرية وتقنية على التجسيد والتأثير , والامر الآخر الوضع العام الذي يشهده العالم من تغيرات , بل وطفرات كبيرة على المستوى الفكري والعلمي والثقافي والسياسي وما الى ذلك , جعل الفرد في خضم تلك المتغيرات وما رافقه من اكتشافات كبيرة , يبحث عن نفسه ومستقبله وما يؤول اليه مصيره .
ولا نستغرب من ان السينما تصدت الى موضوعات استشرافية منذ وقت مبكر من عمرها كفلم (رحلة الى القمر) لجورج ميليه الذي انتجه عام 1902 والذي يتحدث عن ذهاب بعض سكان الارض الى القمر, وافلام كثيرة كانت تتحدث عن امور مستقبلية مستندة الى حوادث آنية كفلم الازمنة الحديثة لتشارلي شابلن الذي انتجه عام 1933 والذي تنبأ فيه عن سيطرة الآلة في المستقبل على البشرية مما يؤدي الى انتشار البطالة في العالم الرأسمالي , واذا ما حاولنا سرد الافلام التي تتحدث في هذا المجال فالقائمة تطول وليس هناك متسع للكتابة في هذه الوريقات.
وقد تكون الموضوعات التي ترتبط بمصير الانسان والعالم هي اكثر الموضوعات الجاذبة والمثيرة للانتباه , وخصوصاً بعد ان اعتمدت السينما على التقنيات الفائقة التي اتاحت لها امكانية خلق عوالم لا يمكن لأي فن من الفنون ان يحققها , وجعلت من المشاهد غير مكتف بالنظر اليها بل متفاعلا ومشاركا ومنغمساً في تفاصيل احداثها , لذا فأن نهاية القرن العشرين وبدايات هذا القرن شهد توجهاً واضحاً لموضوعات تنحو نحو الاستشراف لقضايا الانسان والعالم والمصير الذي يؤول اليه . حتى اصبح الانسان شديد الارتباط بموضوعات السينما فسرعان ما يحدث امر ما في العالم تجد ان الافراد في أي بقعة من العالم يبحث في قائمة الافلام المنتجة لعله يجد من الافلام ما يحاكي هذا الحدث من قريب او من بعيد , لذا فأن الفلم السينمائي اصبح شبيها بالمرجعية التنبؤية التي تطرح الحوادث المستقبلية بالصوت والصورة وهو وثيقة لا من الماضي بل وثيقة مستقبلية تحاكي القادم من الايام .
وليس غريباً ان يطرح الفلم السينمائي موضوعات ومنذ سنين عديدة لما يحدث اليوم من تفشي وباء فايروس كورونا , والكثير من الحوادث التي سبقت هذا الحدث كالهجوم على برجي التجارة العالمي والذي تناولته افلام عديدة منها (قبلة طويلة قبل النوم The long kiss Good night) اخراج ريني هارلن انتاج 1996 والذي في احدى مشاهده تتحدث احدى الشخصيات عن تفجير برجي التجارة العالمي وقتل 4000 شخص والصاق التهمة بالمسلمين بمصادقة الكونغرس الامريكي, او (فلم Mario Brothers) اخراج روكي مورتون وانابيل جانكيل انتاج عام 1993او موضوعات اخرى كحرب الخليج او النهايات المثيرة للعالم بشتى موضوعاتها, الا ان الانظار اليوم تتوجه الى الوباء الذي عصف بالعالم وراح ضحيته الالاف , واذا تتبعنا مسيرة الافلام التي تحدثت عن وباء عالمي يصيب الكرة الارضية نجد الكثير منها , سواء كان هذا الوباء فايروس او طفيليات او تحول الانسان الى زومبي او غيره وشواهد الافلام كثيرة صعبة الاحصاء والحصر , ففي فلم Slither اخراج جيمس جن انتاج عام 2006 يتحدث عن غزو طفيلي يصيب الناس , وفلم ( تفشي Out break ) اخراج بترسن وانتاج عام 1995 يتحدث عن فريق طبي تابع للكونغرس الامريكي يجري بعض الاختبارات الفيروسية في احدى المدن الافريقية الا ان هذا الفايروس ينتشر بسرعة في كل ارجاء القرية مما دعى الفريق الطبي للاتصال بالقيادات العليا لإنقاذهم فيرسل الكونغرس طائرة محملة بالقنابل تلقيها على القرية فتقتل كل من في القرية حتى الفريق الطبي الامريكي , ورغم ذلك ينتقل الفايروس عن طريق شمبانزي يخرج من القرية ويصعد باخرة لينقل المرض الى امريكا . اما فلم (عدوى Contagion) اخراج ستيفن سودربرغ وانتاج عام 2011 فهو يتحدث عن فايروس شبيه بفايروس كورونا ينتقل عن طريق امرأة قادمة من هونغ كونغ لينتشر في ارجاء امريكا والعالم .
القضية الملفتة في الموضوع هو ان السينما لم تستشرف الموضوعات في السينما فحسب بل تعدت ذلك من خلال الاستشراف لحال المجتمعات والمخاوف العمومية التي تصيب المجتمعات , فبعد ان كانت المخاوف على الصعيد الفردي , تتحول الى مخاوف جماعية بسبب النظام الاتصالي العالمي الجديد والانفتاح الكبير بين البلدان وتلاشي الحدود الجغرافية بين الدول واذا كانت الناس تخاف الحروب والاسلحة العسكرية فأن المخاوف الجديدة هي من نوع آخر وهذا ما ينعكس بشكل واضح على طبيعة الحياة الاجتماعية لدى الافراد , لهذا تحدث بول فيريلو في حديث اجرته آن دياتكين ونشرته صحيفة ليبراسيون الفرنسية في عددها الصادر في 17 كانون الاول عام 2005 وترجمه بسام نجار وقام بنشره في جريدة المستقبل الالكترونية في 15-10-2018 الصادرة من بيروت , عن الانتقال من عصر الحرب الباردة الى عصر الهلع البارد الذي يقول عنه بانه ” ذلك القلق الجمعي المشترك الذي يدفعنا الى الاستماتة في توقع غير المتوقع واستشراف الكارثة التي بطبعها تفاجئنا على الدوام كارثة قد تكون بيئية او بيولوجية او تكنولوجية او سياسية , الجديد في الامر هو ان الخوف بات لا يصيب فرداً بعينه بل يصيب عمل المجموعة , اننا نحيا ببرودة ,بطمأنينة في انتظار هجوم ارهابي يتردد على مسامعنا انه حتمي وقد يحدث في اي مكان , هذا الهلع البارد يفضي الى حالة سكون الى حالة من الردع المدني شبيهة بحالة الردع العسكري بين الامم “.
واذا تتبعنا المشهد السينمائي للسنوات الاخيرة نجد انه قد هيأة الارضية المناسبة لهذا القلق والهلع الجمعي وكان التنبؤ بهذا الخطر العالمي في صميم الاعمال السينمائي التي لاقت قبولا وتوجها ملحوظا من قبل الجماهير.