الاقتصاد العالمي في زمن الكورونا .. الى اين ؟
ا.د ناديه صالح مهدي الوائلي
Nadia.s@uokerbala.edu.iq
في الوقت الذي يعتبر فايروس كورونا يشكل خطر على البشرية فانه في ذات الوقت يمثل تهديدا كبيرا للواقع الاقتصادي العالمي , فهو من الممكن تشخيصه من الناحية الطبية الا انه من الصعوبة بمكان تحديد خطره واثاره الاقتصادية , ففي 4 مارس 2020 صرحت المفوضية الاوربية ان العديد من الدول معرضة لخطر التحرك والانزلاق نحو الركود .
ومن هنا تثار العديد من الأسئلة ( كيف والى أي مدى وباي سرعة سوف ينتشر ويمتد هذا الضرر الاقتصادي ؟ والى أي وقت سيستمر هذا الضرر ؟ وماهي وسائل العدوى لهذا الضرر الاقتصادي والمهم من جميع ما سبق كيف ستتعامل الحكومات مع ذلك وماهي حلولها المتوقعة لهذا الضرر؟)
وفي محاولات لعدد من خبراء الاقتصاد للإجابة عن تلك الأسئلة، واستكشاف مستقبل الاقتصاد العالمي في ظل انتشار فيروس كورونا، وذلك عبر أوراق بحثية وتقديرات جُمعت في كتاب إلكتروني، أصدره “مركز أبحاث السياسات الاقتصادية” بلندن، تحت عنوان: “الاقتصاد في زمن الكورونا” وعلى هذا الأساس يمكن التدرج في التحليل لمتابعه التحولات الاقتصادية على هذا النحو
1- تغيرات متسارعة Accelerating changes
مع بدايه مطلع العام الجديد 2020، بدا الاقتصاد العالمي في طريقه إلى انتعاش جيد، وأنه لن يتأثر بشدة بتلك التوترات التجارية والسياسية التي كانت جارية وقتها، فكانت الأسواق المالية منتعشة وتوقعات النمو متفائلة. كل هذا تحول بعد انتشار فيروس كورونا في معظم دول العالم.
تُسيطر حالة من عدم الثقة او الا يقين حول عمر الأزمة الاقتصادية الراهنة التي تسبّب فيها فيروس كورونا، فمن الواضح أن هذه الصدمة الاقتصادية يمكن أن تسبب آلامًا طويلة، وربما تترك ندوبًا عميقة أكبر بكثير من الأوبئة الأخرى التي كانت تظهر بعد الحروب الكبرى.
هذا الوباء مختلف من الناحية الاقتصادية، لأنه ضرب بشدة الدول الاقتصادية الكبرى، فالدول الأكثر تضررًا تشمل مجموعة السبعة G7، بالإضافة إلى الصين. ورغم تغير البيانات الطبية كل ساعة، إلا أنه اعتبارًا من 5 مارس 2020، كانت الدول العشر الأكثر تضررًا من فيروس كورونا مطابقة تقريبًا لقائمة أكبر عشرة اقتصادات في العالم (باستثناء إيران والهند). وتأتي الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا ضمن العشرة الأوائل الأكثر تأثرًا بالمرض.
ولكي نُدرك حجم الكارثة، وإذا أخذنا فقط الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، فسنجد أنهم يمثلون 59% من العرض والطلب العالميين (الناتج المحلي الإجمالي)، و66% من التصنيع العالمي، و41% من الصادرات الصناعية العالمية.
وعلى هذا الأساس .. من المتوقع أن يتضرر قطاع التصنيع العالمي من ثلاثة جوانب:
أولًا- تعطل الإمدادات المباشرة سيعيق الإنتاج، حيث يركز الفيروس على قلب التصنيع في العالم (شرق آسيا) وينتشر بسرعة في الشركات الصناعية العملاقة الأخرى في الولايات المتحدة وألمانيا.
ثانيًا- ستؤدي العدوى في سلسلة التوريد إلى تضخيم صدمات التوريد المباشرة، حيث ستجد قطاعات التصنيع في الدول الأقل تأثرًا صعوبة أكبر وأكثر تكلفةً في الحصول على المدخلات الصناعية المستوردة من الدول المتضررة بشدة، ومن ثَمَّ من بعضها بعضًا.
ثالثًا- ستكون هناك اضطرابات في الطلب بسبب حالات الركود وانخفاض الاقتصاد الكلي، وبسبب حالة الترقب والتأخير في الشراء التي تُسيطر على المستهلكين والمستثمرين.
2- نوعية الصدمات الاقتصادية The quality of economic shocks
هناك مظاهر عدة للصدمات الاقتصادية التي يواجهها العالم حاليًّا بسبب هذا فيروس كورونا، ومن المرجح أن تستمر لأسابيع وشهور مقبلة.
1- معتقدات الناس وافكارهم، حيث إن حالة الذعر التي تنتشر بين الناس بسبب انتشار الفيروس، وعدم ثقتها في السياسات والقرارات الحكومية، قد يدفعهم إلى انتهاج ما يُعرف بـ”سلوك القطيع”، حيث تنتشر الفوضى، ويتكالب الناس على شراء المواد الاستهلاكية، وسحب أموالهم من البنوك، وهو ما قد يقود بعض الاقتصادات إلى كوارث مُحققة.
2- تغيرات او انخفاض مستويات العرض وانكماش الإنتاجية، حيث أغلقت السلطات والشركات في العديد من الدول أماكن العمل والمدارس. فقد أمرت العديد من الشركات اليابانية الكبيرة موظفيها بالعمل من المنزل منذ أواخر فبراير، وهو الحال في معظم دول العالم. فمن منظور اقتصادي، فإن عمليات الإغلاق وحظر السفر تُقلل الإنتاجية بشكل مباشر، بطريقة تُشبه الانخفاض المؤقت في التوظيف.
3- عامل الزمن والحيز المكاني، حيث إن فيروس كورونا ليس أول صدمة إمداد يشهدها العالم، فهناك “الصدمات النفطية” في السبعينيات من القرن الماضي، وتسونامي تايلاند وزلزال اليابان عام 2011. ولكن كل هذه الصدمات والأزمة كان لها نطاق جغرافي مُحدد، دون توسع مادي، وكذلك إطار زمني بلغت خلاله الذروة ثم توقفت؛ إلا أن فيروس كورونا أثبت أنه غير قابل للسيطرة، فهو ينتشر في كافة بقاع العالم ليترك آثار الصدمة على معظم الاقتصادات، وكذلك ليس هناك إطارٌ زمني واضح من المحتمل أن ينتهي خلاله هذا الوباء.
.
4- سلسلة الداعمين او الموردين ، فاعتبارًا من أوائل مارس 2020، كان وباء كورونا متمركزًا في الصين، وكانت -بجانب اليابان وكوريا- أكثر الدول تضررًا. وبالنظر إلى مركزية هذه الدول في سلاسل التوريد العالمية في العديد من السلع المصنعة، يمكننا استكشاف آثار الوباء الحالي على سلاسل التوريد العالمي، وتلقي قطاع التصنيع صدمات قوية في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، خاصة في ظل التأثير الواضح للوباء على دول مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.
5- تغيرات الطلب ، والذي من المتوقع أن يتقلص بشكل كبير، حيث إن حظر التجوال وتقييد حركة المواطنين والسفر سيُقلل من حجم الطلب على السوق بنسبة ما، وذلك على مستوى المستهلكين. أمّا على مستوى المستثمرين، فستسود حالة من الحذر والترقب، التي ستمنعهم من ضخ أي أموال في مشروعات أو استثمارات جديدة.
3- ناقلي العدوى الاقتصادية Economic infection carriers
يمكن اعتبار أن كافة التدفقات الاقتصادية عبر الحدود هي ناقلة عدوى للمخاطر والكوارث الاقتصادية المرتبطة بانتشار فيروس كورونا، من بضائع، وخدمات، وأشخاص، ورأس مال، واستثمار أجنبي، ومصارف دولية.
على مستوى البنوك، يُرجِّح العديد من الخبراء أن القطاع المصرفي قد تعلّم من درس الأزمة المالية 2008، وأصبح من غير المُرجح أن يكون ناقلًا رئيسيًّا للعدوى، حيث أصبحت الاحتياطيات أعلى والنظام المصرفي بشكل عام أكثر أمانًا. ولكن تظل هناك مخاوف من تأثير الصدمات والتوقعات السلبية، التي قد تدفع المواطنين لحالة من الذعر في تعاملها مع البنوك. وكذلك قد تدفع حالة الركود بعض الشركات إلى الإفلاس والتخلف عن سداد القروض والأقساط للبنوك. وهو ما قد يتسبّب في أزمة حقيقية حال توسع نطاق تأثيره.
يتمثل الخطر الأكبر في القطاع المالي غير المصرفي، فالشركات هي الأكثر عرضة للخطر إذا تدهورت حالة الثقة والسيولة. ويتنبأ الخبراء بمشاكل مالية ضخمة، حيث يتعين على الشركات دفع الديون والأجور، ويتعين على الناس دفع أقساط الرهن العقاري أو دفع الإيجارات، وإذا تُركت وحدها دون مساعدات، فيمكن أن تكون هناك موجة ضخمة من الإفلاس التي قد تُؤدي إلى كارثة مالية.
ولكن أغلب المُحللين ركّزوا على انتقال عدوى إغلاق المصانع وكساد بعض الصناعات بين الدول، فالدول المنكوبة ستتقلص صادراتها بشكل كبير، وهو ما سيؤثر على القطاع الصناعي في دول أخرى تعتمد على الدول المنكوبة في إمداداتها الصناعية. وبنظرة أكثر تفصيلًا، سنجد أن الشركات الصناعية داخل الدول الثلاث الكبرى في شرق آسيا (الصين، وكوريا الجنوبية، واليابان) تزوّد الولايات المتحدة الأمريكية بأكثر من 25% من وارداتها الصناعية بشكل عام، وترتفع هذه النسبة لأكثر من 50% عند الحديث عن قطاع الكمبيوتر والإلكترونيات.
فعلى سبيل المثال، هناك مقاطعة في الصين تسمى “هوبي”، يُطلق عليها “وادي البصريات”، نظرًا لوجود العديد من الشركات التي تُصنّع مكونات الألياف البصرية هناك (وهي مدخلات أساسية لشبكات الاتصالات)، حيث يوجد في المقاطعة ما يقرب من ربع كابلات وأجهزة الألياف الضوئية في العالم. مقاطعة “هوبي” أيضًا موقع لمصانع تصنيع الرقائق الدقيقة المتقدمة للغاية، والتي تُصنّع منها رقائق الذاكرة المحمولة المستخدمة في الهواتف الذكية على سبيل المثال. ومن المتوقع أن انتشار الوباء في “هوبي” فقط، يمكن أن يُخفِّض 10% من الشحنات العالمية للهواتف الذكية.
إن قطاع السيارات، وخاصة في شرق آسيا، قد تعطل بالفعل بسبب التمزقات في سلاسل التوريد الدولية. على سبيل المثال، أجبر نقص الأجزاء القادمة من الصين شركة “هيونداي” الكورية لصناعة السيارات على إغلاق جميع مصانع السيارات في كوريا. كذلك أغلقت شركة “نيسان” اليابانية مصنعًا في اليابان مؤقتًا. وقد وصلت الصدمة إلى أوروبا، حيث حذّرت شركة Fiat-Chrysler من أنها قد تُوقِف قريبًا الإنتاج في أحد مصانعها الأوروبية.
4- مواقف الحكومات Government reactions
على الرغم من كل ما سبق من توقعات، إلا أن حجم الضرر الاقتصادي واستمراره سيتوقف بشكل أساسي على كيفية تعامل الحكومات مع هذا الوباء، حيث إن طبيعة الأزمة الحالية وانتشارها بين مختلف دول وقارات العالم، فرضت خلق روح تعاونية بين مختلف الحكومات في مواجهة الأزمة، وجعلت من الضروري حدوث عملية تنسيق رفيعة المستوى أثناء عملية صنع القرارات واتخاذها.
ويرى الخبراء أن هناك ثلاثة أطر رئيسية يجب أن تمثل عماد استجابة حكومات العالم للتداعيات الاقتصادية المحتملة لانتشار فيروس كورونا، والتي تتمثل في:
أولًا- أن تتخذ البنوك المركزية قراراتها المتعلقة بالسياسة النقدية بناءً على تنسيق وتعاون مشترك فيما بينها، بدلًا من القرارات المنفردة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، فإن خفض سعر الفائدة الطارئة من قبل الاحتياطي الفيدرالي لم يجعل الوضع أسهل للبنوك المركزية، التي وصلت بالفعل للحد الأدنى الفعّال. فيجب أن تشير جميع البنوك المركزية إلى أنها مستعدة للتدخلات المُنسّقة، وتوفير السيولة في حال حدوث خلل خطير يؤدي إلى الضغط على الوسطاء الماليين.
ثانيًا- نظرًا لطبيعة هذه الصدمة، قد تكون الشركات الصغيرة والمتوسطة من بين أكثر الشركات تعرضًا لأزمات السيولة، وبالتالي من المهم توفير التسهيلات لمواصلة إقراض تلك الشركات الصغيرة والمتوسطة.
ثالثًا- لا بد من اتخاذ قرارات اقتصادية تستهدف مساعدة الأشخاص المتضررين من الحجر الصحي ونقص الدخل، كما تم بالفعل في إيطاليا، سواء من خلال تقديم دعم مالي مباشر، أو في هيئة خدمات أساسية مجانية أو ذات أسعار مُخفّضة، وذلك لمنع الناس من الإفلاس.
وعلى المستوى الأوروبي، يقترح الخبراء رفع درجات التضامن والتنسيق بين الدول الأوروبية، مثل تبادل الأدوات الطبية، وفتح المستشفيات لاستقبال مرضى من دول أوروبية أخرى، وإعارة الممرضات والأطباء. وكذلك هناك دعوة لتوسيع “صندوق التضامن الأوروبي”، وهو الذي تم إنشاؤه عام 2002 لدعم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في حالات الكوارث الكبيرة، حيث يمكن لهذا الصندوق التدخل لتوفير الإغاثة للمناطق المتضررة خلال الأزمة أو في المراحل التالية.
ويزعم الخبراء أن تحقيق هذا النمط من التعاون ربما يمنح فرصة للاتحاد الأوروبي مُجددًا، لتكون هذه الأزمة سببًا في تصحيح مسار سياسات القارة العجوز