رسل زياد راهي
إشــــــراف
أ. م.د مسلم محسن عبود السوداني
اثار الأجواء النفسية لفريضة الحج في النفس والسلوك:
للتشريع الاسلامي اهدافه البعيدة ومقاصده السامية؛ فهو يهدف الـى تحقيـق مصـالح الانسان ودفع المفاسد عنه والاضرار . وللوصول الى هذا الهدف شرعت العبادات مظهرا من مظاهر الانقياد الله والعبودية له، قال تعالى : « وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبـدون »([1]) وشحنت كل عبادة بما يتضافر على خلق الاجواء النفسية المؤثرة في نفس الفرد وسلوكه ، ومن ثم فـي المجتمع ، مما يجعل التشريع حيا في قلوب ابنائه حياة عملية دائمة ومن واقعهم لتجعـل مـنهم اجيالا صالحة منقادة لخالقهم مقيمة لأوامره ونواهيه .
وتلك الاجواء النفسية تساعد المؤمن في تصفية نفسه مـن كـل كـدر وتحفـزه علـى الاستمرار في سلوكه الحميد لبناء مجتمعه القويم.
وفي عزم المؤمن على الحج والتأهب له بتوفير مستلزماته مـن زاد وراحلـة ، تبـدأ مشاعره بالتسامي والاندفاع نحو الايمان ، واخلاص النية في طاعة الله طاعة خالصة من كـل رياء وريبة ، ليس عليها رقيب او سلطان ، بل هو اندفاع ذاتي ينمو في نفس صـاحبه ويـزداد اندفاعاً ، ثم تزداد تلك المشاعر عمقاً بالسير فعلاً نحو بيت الله ، وتبدأ المعاناة والمكابدة بمفارقة الاهل والوطن والمصالح الدنيوية ، وتحمل الاعباء البدنية والمالية مما يجعلـه يتقـرب الـى حظيرة الايمان ويقدم اليه بجوارحه ، اذ تهيأت له الاحداث التي تشحنه بالدوافع الى الاخلاص في هذه العبادة ومن ثم الاخلاص في كل عمل محمود .
فياتي الى بيت الله الحرام يقلب صادق ، ونية خالصة ، وعزم أكيد على اصـفاء العمـل وتمحيصه بحيث يكون خالصا الله وحده ، فتشحن همته بمشاعر الايمان حين يمارس منسكا بعد منسك ، وهو يرى اخوانه الحجاج وقد جاءوا من كل حدب وصوب ، سارت بهم ركبانهم مـن كل فج عميق ، وقد قطعوا نائي الاقاليم والاقطار ، واجتازوا الجبال والسهول والفيافي والقفـار ، وعبوا المضايق وشقوا الحج البحار ، يواصلون السفر في الليـل وفـي النهـار ، سـائرين او محمولين براً وبحراً وجواً ، بمختلف الالسـنة والسـحنات ، توحــدت مشـاعرهم وم واعمالهم ، وصفت قلوبهم ، لا يبتغون بعملهم من الله الا الرضوان([2]) .
فيطوف معهم في البيت العتيق، طواف القدوم ، وتتطوف معه نفسه في رحاب الايمان . ويسعى بين الصفا والمروة، وتسعى نفسه جاهدة في آفاق الطاعة والغفران .
وحين يقف على عرفة تقف مشاعره امام ذلك المنظر المهيب والحشد العجيـب ، فكانـه يقف في هول المحشر الرهيب فتخبت نفسه ، ويرق لبه ، ويطمئن عقله وقلبه ، وينفض عنه همه وكربه.
ثم يفيض بعدها الى المزدلفة ، فتفيض جوانحه بالشوق والحنين الى لقاء ربـه الـرحمن المعين ، وتسري نفسه في مدارج السالكين .
ثم يسير بهم الركب الميمون الى ( منی ) تحدوه الامال والمنى ، ويرمي معهـم الحـجـار ، فيرمي معها جميع ذنوبه وآثامه وجميع الاوزار ويطهر قلبه من كل شحناء فلا يبقى فيه حسد او غل او بغضاء .
ويطوف طواف الافاضة فتفيض النفس حسرة وندما على ما فرطت في جنب الله .
ثم يقضي ايام التشريق في رمي الحجرات ثم يطوف طواف الوداع فيأتي الى اهله وقـد القي عن كاهله كل الرذائل وسيئات الطباع ، وهو يأمل بالقبول ، وبالرضا المؤمول ، ويحل بين اهله وهو سعيد وقد بعث الى الحياة من جديد .
ويكون الانسان صاف من جميع الآثام والعيوب وقـد امـتـلأ قلبـه بالايمان وبالمشاعر السامية التي خلفها له فريضة الحج ؛ اذ نزعت عنه الاوضـار ، وازالـت الآثار ، فكان حقا كما قال ﷺ ( ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خـرج مـن جميع ذنوبه كيوم ولدته امه ) ).
فهنيئا لكل من استطاع ان يحقق معاني الحج ويلتزمها قولا وعملا ، فان ( ( الحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة ) ) صدق رسول الله ﷺ .
جعلنا الله من اهله الفائزين برضاه ، وحشرنا مع عباده الصالحين فهو اصـدق مجيـب واكرم معين .. آمين .. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين([3]) .
[1] ) الآية 56 سورة الذاريات.
[2] ) الشربیني، مغني المحتاج، ج 1، ص 745-746.
[3] ) الطريحي، مجمع البحرين، ج 4، ص 305.