: التطورات التكنلوجية :
على غرار ما فعلته الثورة الصناعية من قبل إذ صاحبتها تغيرات اقتصادية واجتماعية محلية ودولية كالبحث عن الأسواق والإستكشافات الجغرافية والاستعمار التي رافقها الحروب والأزمات،أحدثت الثورة العلمية والتكنلوجية وما زالت تُحدث تغيرات اقتصادية واجتماعية جذرية ، ولكن بشكل مختلف عن الثورة الصناعية ، فقد كانت الفكرة في الماضي أن العلوم تبحث عن المعرفة بغض النظر عن إستخدامها عملياً ، وأن التكنلوجيا هي تطبيق العلوم بما يوفـر إسـتجابة
لحاجة من الحاجات الأساسية للإنسان ، ولذلك كان استخدام العلم لخدمة التكنلوجيا يحوله من مجرد
خلاصة للمعرفة إلى نتيجة عملية تعتمد على الأفكار العلمية في تطبيقها لتستفيد منها في مجالات الحياة كافة(1).
إن التقدم التكنلوجي هو جزء مهم من النمو الاقتصادي ، إذ يُعد النمو الاقتصادي مرادفاً لزيادة كمية ونوعية السلع التي أصبحت متاحة للبشرية على مر الزمن ، كما إنها تعني ضمناً التحسن في فنون الإنتاج وتدني الجهد البدني للعمل مع مرور الوقت كنتيجة للتغير التكنلوجي ، وهذه التغيرات لا تتم في خطوة واحدة فهي عملية ديناميكية تستند على ذاتها ، ويؤدي إزدياد نطاق المنتجات المتاحة وعمليات الإنتاج إلى توسيع نطاق التقدم التكنلوجي وإرتفاع القدرة على التقدم الاقتصادي(2).
لقد أدت التطورات العلمية والتكنلوجية إلى تغيير نمط وتوزيع المزايا النسبية للتصنيع في العالم ، وتغيير مفهوم مكونات هذه المزايا ، فبعد أن كان مضمون المزايا النسبية للتصنيع في أي دولة يتمثل في توافر عناصر الإنتاج العينية الرئيسة (رأس المال ، العمل ، الموارد الطبيعية) وصعوبة إنتقالها من دولة لأخرى ، أدت التطورات التكنلوجية وبخاصة المتعلقة بالإتصالات والمواصلات ، وإمكانية تجزئة عناصر العملية الإنتاجية ، وظهور المنظمات الاقتصادية الدولية التي تقوم بدور كبير في توجيه وتنظيم العلاقات الاقتصادية الدولية ، هذه التطورات مجتمعة فسحت المجال أمام عناصر الإنتاج العينية وبخاصة رأس المال للإنتقال من دولة إلى أخرى ، أي أن الثورة العلمية كانت السبب في تقليل أهمية هذه العناصر كمحددات للمزايا النسبية ، وإبراز أهمية عناصر الإنتاج غير العينية ، وفي مقدمتها أنشطة البحث العلمي والتطور التكنلوجي(3).
إن النمو الاقتصادي العالمي خلال العقد الأخير من القرن العشرين متزامناً مع إتساع حجم وإنتشار الاستثمار الأجنبي المباشر ، كان بفضل التطور الحاصل في منظومة الإتصالات والمواصلات ، التي سهلت عملية الإتصال بين الشركة الأم والشركات الفرعية ، إذ أصبحت السيطرة الفنية والإدارية الحديثة منتشرة في نطاق هذه الشركات (الشركات متعددة الجنسية) ، وتزامناً مع هذا التطور في نظام الإتصالات والمواصلات وبروز ظاهرة العولمة والتوسع الحاصل فيها وعلاقتها التواصلية مع الاستثمار الأجنبي المباشر ، على إعتبار أن الاستثمار الأجنبي المباشر وبالتكامل مع التجارة الدولية يعتبر القناة الرئيسية لهدف ظاهرة العولمة(4).
رابعاً : الشركات المتعددة الجنسية :
تشكل الشركات متعددة الجنسية “MNCs”)(Multinational Corporationsاليوم أحد القوى المحركة في النظام الاقتصادي والسياسي الدولي ،وهي ظاهرة اقتصادية مهمة في مجال العلاقات الدولية، إذ أصبحت تمثل أحد القوى المؤثرة في صنع الأحداث والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم المعاصر، وبالتالي فهي بمثابة الحكومة الكونية (Global Government) التي يمكنها أن تتحكم بموارد طبيعية كبيرة وتسيطر بشكل مباشر على أهم النشاطات الاقتصادية في العالم، وقد دفع تعاظم نفوذ هذه الشركات إلى إيجاد نوع قوي من المزج بين الوحدات الإنتاجية والمؤسسات المالية والمصرفية على الصعيد العالمي(1).
عُرفت هذه الشركات من قبل الاقتصاديين بعدة تعاريف فقد عرَفها مايكل تانزر بأنها: “مشاريع قليلة العدد عملاقة في حجمها ، وهي ذات عمليات تصنيع مباشرة في دول مختلفة وذات هيكل عالمي في تعدد وتشعب إنتاجها ومناطقها الإدارية ، وتغطي فعالياتها الإنتاجية بسلع مختلفة ومناطق جغرافية متباينة”(2) ، أما مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) فقد عَرفها على إنها “كيان إقتصادي يزاول التجارة والإنتاج عبر القارات وله في دولتين أو أكثر شركات وليدة أو فروع تتحكم فيها الشركة الأم بصورة فعالة وتخطط لكل قراراتها تخطيطاً شاملاً”(3).
لقد أصبحت الشركات المتعددة الجنسية من ظواهر الاقتصاد الحديث لإتساعها الكبير في العالم حيث تقوم ببناء وبيع مصانعها ومنتجاتها في العديد من دول العالم ، وتقوم بتحويل مبالغ مالية ضخمة من بلد لآخر وفق إحتياجاتها ، كما تقوم بتشغيل العديد من العمال والموظفين من جنسيات مختلفة ، ولضخامة هذه الشركات فإن لها تأثير فعَال على الاقتصاد العالمي وبإمكانها التأثير على اقتصاديات الدول وخاصة المتخلفة منها لما تمتلكه من سلطة قوية تتخوف منها الدول (4).
يتنوع نشاط هذه الشركات بين إستخراج المعادن الأولية إلى تصنيع المنتجات ، ومن بضائع استهلاكية مثل المشروبات الغازية إلى منتجات تكنلوجية مثل الحواسيب الألكترونية والهواتف الجوالة إلى خدمات التأمين والصيرفة والخدمات المالية والسياحة والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والنقل ، أما عن عملها فهي تختلف في نوعية العمل وكذلك في كيفية أدائه والمستوى التكنلوجي ، والبناء التنظيمي وبنية السوق الذي يستوعب منتجات تلك الشركات(5) ، كما أنها تتسم بسمتين أساسيتين هما حجمها الكبير وعملياتها المنتشرة عالمياً ، وتميل أنشطتها إلى التحكم المركزي عن طريق الشركة الأم ، وهذه الشركات قوة أساسية في انتشار عولمة التجارة العالمية ، إذ أن أكبر (350) شركة الأن تتحكم في أكثر من (40%) من هذه التجارة ، وتسيطر على الإنتاج والتوزيع والبيع للعديد من السلع في البلدان النامية (مثل التبغ ، الألكترونيات ، الأحذية والملابس) ،
وقد أصبحت لهذه الشركات مصانع عالمية تبحث عن الفرص في أي مكان في العالم(1).
وتتجسد في هذه الشركات معايير التكامل في فروع النشاط مع تعاظم نسبة الأعمال الدولية مقارنة بالأعمال القومية للشركة الأم ، ويتسم هيكلها التنظيمي والاستراتيجي بدرجة عالية من الإحكام مع وجود تعددية لجنسية المالكين والمدراء ذوي النفوذ في إتخاذ القرارات في إطار يحقق درجة عالية من تناسق السياسات داخل الشركة كشبكة متكاملة ، وهي تميل إلى التطور الرأسمالي المعاصر بهدف تحقيق الآتي(2) :-
1 . توحيد سوق التجارة الدولية عن طريق الاضعاف المستمر لقيود التعرفة الكمركية .
2 . توحيد سوق المال والإئتمان الدولي .
3 . توحيد سوق التكنلوجيا الدولي من خلال الحركة القومية نحو التنميط .
وبهذا ساهمت الشركات المتعددة الجنسية بشكل كبير في تطور ونمو الاستثمار الأجنبي المباشر وبأنواعه المختلفة عن طريق أعمالها في غالبية دول العالم ودفعها بهذا الإتجاه ، وخاصة الدول النامية وذلك لما تشكله هذه الشركات من مكاتبات جعلها تفرض إرادتها على الدول النامية التي فتحت حدودها أمامها لغرض الاستثمار فيها .
(1) للمزيد أنظر : د. فؤاد مرسي :”الرأسمالية تجدد نفسها”، سلسلة عالم المعرفة (147) ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ،الكويت ، آذار1990، ص59 .
مظفر حسني علي :”التكيف الإقتصادي وأثره في التجارة الخارجية لدول نامية مختارة”، إطروحة دكتوراة / قسم الإقتصاد ، الجامعة المستنصرية ،1999 ، ص 21 .
(2) د. علي توفيق الصادق :”القدرة التنافسية للاقتصادات العربية في الأسواق العالمية” ، صندوق النقد العربي – معهد السياسات الاقتصادية ، سلسلة بحوث ومناقشات حلقات العمل ، العدد الخامس للمدة 5-7 تشرين الأول 1999 ، أبو ظبي ، ص 77 .
(3) عصام عمر مندور :”محددات الاستثمار الأجنبي المباشر في ظل المتغيرات الدولية” ، مصدر سابق ، ص 56 .
(4) مايكل تانزر :”من الاقتصاد القومي إلى الاقتصاد الكوني- دور الشركات متعددة الجنسية” ، ترجمة عفيف الرزاز ، ط 1 ، مؤسسة الأبحاث العربية ، بيروت ، 1981 ، ص 53 .
(1) للمزيد حول الشركات متعددة الجنسية أنظر : د. نوزاد عبدالرحمن الهيتي :”الشركات المتعددة الجنسية ودورها في الاقتصاد العالمي” ، بحث منشور في مجلة علوم إنسانية ، العدد 432 ، كأنون الثأني ، 2007 م.
أدريانو بينايون :”العولمة نقيض التنمية” ، ترجمة جعفر علي حسين السوداني ، مراجعة د. عماد عبداللطيف سالم ، منشورات بيت الحكمة ، بغداد ، 2002 .
(2) مايكل تانزر :”من الإقتصاد القومي إلى الاقتصاد الكوني – دور الشركات المتعددة الجنسيات” ، مصدر سابق ، ص 123 .
(3) بول هيرست – غراهام طومسون :”ما العولمة، الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم” ، مصدر سابق ، 2001 ،
(4) مصطفى كامل السعيد إبراهيم :”الشركات متعددة الجنسية والوطن العربي” ، الهيئة المصرية للكتاب ، 1978 ، ص 12 .
(5) د. نوزاد عبدالرحمن الهيتي :”الشركات المتعددة الجنسية ودورها في الاقتصاد العالمي” ، مصدر سابق ، ص 2 .
(1) ميشيل تودارو :”التنمية الاقتصادية” ، نعريب د. محمود حسن حسني – د. محمود حامد محمود ، دار المريخ ، الرياض – المملكة العربية السعودية ، 2009 ، ص 659 .
(2) محمد السيد سعيد :”حوار الشمال والجنوب وأزمة تقسيم العمل الدولي والشركات المتعددة الجنسية”، دار الشباب للنشر، الكويت ،1986 ، ص 120.