من ورقة عمل مقدمة إلى مؤتمر التنمية والأمن في الوطن العربي …
ما يقرب من نصف قرن في الاعتقاد الخاطئ بأن التنمية تتعلق بتكوين ومضاعفة رأس المال المادي. وليس من الضروري أن يضيع نصف قرن آخر في الاعتقاد بأن التنمية البشرية المستدامة تتعلق برأس المال الطبيعي. فالخبراء والمختصون الجامعيون، وصناع القرار ومسؤولو الأمم المتحدة، مهما صفت نواياهم وتسامت أفكارهم، لا يستطيعون منع تدهور البيئة مثلا. بل إن الشيء الوحيد القادر على إيقافه هو قدرة الناس على حماية بيئتهم المحلية والدفاع عنها ضد أعمالهم نفسها وأعمال الناس الخارجيين. وهذا يعني وضع الناس في المرتبة الأولى بالاعتراف بأهمية توسيع خياراتهم وقدراتهم. فهناك حاجة إلى تكامل التنمية المستدامة والتنمية البشرية بطريقة تقوي المؤسسات على الصعيدين المحلي والوطني، وفي الوقت نفسه توسع وعي الناس بأمراض التنمية كما هي مفهومة في أذهانهم حتى الآن.
إن النموذج التقليدي للتنمية لم يعد مقبولا، فرغم أن نهاية الشيوعية ترتبط في أذهان الكثيرين بانتصار اقتصاد السوق، والديمقراطية الليبرالية، إلا أنه يتضح باطراد بأن الطريقة التي اعتدنا أن نفكر بها في التنمية لم تعد ملائمة. فليس هناك مجال للزعم بأن ” كل شيء على ما يرام ” خصوصا وأن الوضع الراهن يتميز بأزمة ثلاثية تؤثر على التطبيقات التنموية. فالأزمة الأولى هي أزمة الدولة، وهي مؤسسة فقدت الكثير من سلطتها في ظل العولمة، والشركات العابرة للقارات، وشبكة المعلومات العالمية، ولم تعد موضع ثقة في كثير من البلدان. والأزمة الثانية هي أزمة السوق. فالسوق بمساعدته على التعجيل باستغلال الموارد الطبيعية القليلة، وبتقديمه الحوافز على تقويض أنظمة الأمن، وبوضعه مبدأ ” جعل الأسعار صحيحة ” فوق الاعتبارات الأخرى ـ إنما يزرع الشكوك والمخاوف في أذهان الناس، وهو بذلك مهدد بفقدان كثير من الدعم الذي كان يلقاه. أما الأزمة الثالثة، فهي أزمة العلم. فانغلاق العلم على نفسه أكثر من اللازم، وعدم قدرته على المحافظة على التنوع الحضاري، جعله ـ رغم أهميته ـ مثارا للمشاكل والجدل.