هو هل الاكتئاب عبارة عن ردة فعل طبيعية على ظروف الحياة القاسية والمقيتة أم أنه مرض ليس له أية وظيفة؟

هو هل الاكتئاب عبارة عن ردة فعل طبيعية على ظروف الحياة القاسية والمقيتة أم أنه مرض ليس له أية وظيفة؟

تختلف الآراء بالطبع. ففي حين أن بعض الخبراء يرون أنه للحالات الاكتئابية معنى، يرى آخرون أن هذه الرؤية لا تمثل سوى تجميلاً غير مبرر لحالة المعنيين. ويرى البروفيسور راندولف نيس Randolph M. Nesse  من جامعة ميتشيغان أن لبعض أشكال من الاكتئاب معنى ووظيفة، حيث يمكن لهذه الأشكال أن تكون مفيدة للمعنيين. فالمشاعر الاكتئابية يمكن أن تكون ردة فعل على مواقف خطيرة ومهددة وغير مرغوبة. ويسوق نيس المثال التالي على رؤيته: فعندما يعيش شخص ما في علاقة غير مرضية على الإطلاق، فإنه سوف ينسحب شيئاً فشيئاً عن شريكه، وسوف يفقد الاهتمام به وينعدم الاهتمام بالجنس و سيصل إلى مرحلة يندر فيها أن يتلفظ بكلمة واحدة مع شريكه. وبمجرد أن تنتهي العلاقة فإن المزاج الاكتئابي سيختفي بالضرورة. ويعتقد نيس أن هذا المثال يوضح أننا لا نبدد  طاقتنا على الأشياء التي لا تهمنا والتي تبدو بالنسبة لنا عديمة المعنى. فالأعراض الاكتئابية المتمثلة في فقدان الدافعية والسلبية يمكن أن تكون مفيدة في بعض المواقف، التي يكون فيها التصرف لاينفع بل وحتى خطيراً. ويستشهد نيس على ذلك بأمثلة من عالم الحيوان. فعندما تتكاثر الثلوج وتنخفض درجة الحرارة وتقل الموارد، فإن البحث عن الطعام يصبح شاقاً ومبدداً للطاقة. ومن أجل عدم استهلاك المزيد من الطاقة بلا طائل فإن الحيوانات تتوقف عن النشاط  وتبقى ساكنة تنتظر حتى لو كانت جائعة.

والاكتئاب ليس مقتصراً على الإنسان فقط. ففي دراستها على القرود تمكنت كارول شيفلي Carol Shively  من مدرسة الطب التابعة لجامعة ويكفوريست في شمال كارولاينا والمتخصصة ببيولوجيا السلوك من إثبات  أن القرود كذلك تصاب بالاكتئاب. ففي عالم القرود يسود تنظيم هرمي صارم، حيث تعيش القرود في مجموعات، قد يصل عددها إلى عشرين قرداً في المجوعة الواحدة أحياناً. والقرد الخاضع لهذا النظام، عليه أن يخوض صراعاً عنيفاً مع  زعيم المجموعة من أجل الحصول على الطعام أو على أنثى. وهو يخاطر بهذا بأن يصاب بأذى قد يصل إلى حد الموت. بالإضافة إلى ذلك تتولد مشاعر عدائية شديدة تجاهه من قبل أعضاء المجموعة الآخرين الأضعف منه. فحياة القرود التابعة حياة مرهقة جداً. وهذا ما يؤكده وجود كميات كبيرة من هرمون الإرهاق “الكوليسترول” في دمهم. 

غير أنه يبدو أن بعض الحيوانات قد طورت لنفسها مضادات للإرهاق المزمن. فهي تنسحب وتنعزل عن المجموعة وتقضي الكثير من الوقت وحدها، وتتجنب الاتصال الجسدي مع القرود الأخرى. إنه قرار حكيم!، فمن خلال هذا السلوك لا تحمي القرود الأضعف نفسها من العدوان الجسدي فحسب، بل وتحمي نفسها أيضاً وتحافظ على مركزها ضمن المجموعة، وقد تمتلك فرصة، وإن كانت محدودة، من أجل التكاثر. وعلى الرغم من أن سلوكها هذا لا يمكن عده مثالياً إلا أن الانسحاب يضمن لها البقاء. وبما أن مجموعات القرود تتغير باستمرار، فهناك فرصة ما، أن يأتي وقت من الأوقات يحظى فيه القرد الأضعف بوضع اجتماعي افضل في مجموعة جديدة من القرود.

ولكن ما علاقة سلوك القردة بسلوكنا نحن البشر؟.

ترى شيفلي أن سلوك الانسحاب لدى القرود يشبه السلوك الاكتئابي لدى البشر، وكذلك يعتقد نيس أن هذه المقارنة معقولة. فحتى في الحياة الإنسانية  هناك مواقف يكون من الحكمة فيها الانتظار السلبي أو الخامد، وعدم  القيام بأي فعل،  كما هو الحال عندما يخفق مخططا ًمهماً من مخططات الحياة. فعندما يفشل مخطط ما من مخططاتنا بشكل غير متوقع نكون قد بذلنا الكثير من الوقت والجهد، الأمر الذي يجعلنا غير مقتنعين بالتخلي عن الأمل والاستسلام. وغالباً ما نشعر هنا بضغط شديد يدفعنا للتصرف، والبدء بمهمة جديدة بأي ثمن وأي شكل، من أجل أن نلهي أنفسنا عن الفشل وننساه ونقنع أنفسنا بأننا مازلنا قادرين. غير أن الخطر من أن نكون تعجلنا التصرف و دخلنا في مشروع جديد فاشل،  يكون كبيراً. وفي مثل هذه المواقف قد يكون كبح نشاطاتنا أكثر فائدة.   فالسلبية والتشاؤم وفقدان الثقة بالنفس يمكنها أن تساعدنا على تجنب حدوث الأضرار. ومثلما هو الخوف عبارة عن إشارة إنذار لوجود خطر يهددنا، فإن الاكتئاب يحمينا من القيام بمجهودات لا فائدة منها.

 

ويؤيد وجهة النظر هذه معالجين نفسيين مثل نصرت بيزيشكيان و أودو بوسمان. إذ يشيران في كتابهما بعنوان “القلق والاكتئاب في الحياة اليومية” إلى أن كل من القلق والاكتئاب عبارة عن إشارات إنذار يهدفان إلى الوقاية من أمر أكثر سوءاً. إنهما احتجاجا الجسد والنفس على المخاطر الواقعية والصراعات غير المحلولة والإرهاقات التي لا تطاق والحاجات غير المحققة والإمكانات غير المستغلة. فالقلق والآلام النفسية تتوسط بين دوافعنا ورغباتنا وحاجاتنا من جهة وبين الواقع والحدود والقوانين الاجتماعية والطبيعية من جهة أخرى. ومن خلالهما نحقق تكيفاً ضرورياً مع معطيات الوجود. وفي الوقت نفسه يذكراننا بهويتنا الفردية، حيث يساعداننا في الحفاظ عليها. ويرى هذان المعالجان النفسيان أن الاعتراف بالقلق والاكتئاب بوصفهما ردتا فعل مبررتان ومشحونتان بالمعنى إلى مدى بعيد، يتيح لنا فرصة كبيرة لشفائهما.