نشأة وتطور التكيف عبر الحضارات التأريخية

نشأة وتطور التكيف عبر الحضارات التأريخية

          توضح لنا الأبحاث والدراسات التأريخية أن عهداً موغلاً في القدم نشأ الإنسان الأول ومضى متطوراً ضارباً في سبيل الإرتقاء آخذاً بالإستجابة مع ظروف البيئة المجهولة لديه وكثيرة التقلبات، وفيها قاوم الإنسان بقدرته على تحصيل الرزق وبإستجابتهِ لبيئتهِ وبين قدرتهِ على التكيف وأن من شأنه الموائمة بين حاجاته الحياتية وبيئته التي يعيش فيها، ثم مضى يتحدى تلك البيئة الصعبة متكيفاً معها تارة ومسيطراً عليها تارة أُخرى إلى أن أستطاع أن يُنشأ حضارة دَلّت على قُدراتهِ وإمكانياتهِ في الإستجابة والقدرة على التغيير من أجل البقاء(1). عاش الإنسان الأول على وجه الأرض بشكل فُرادى آخذاً في إستكشاف بيئته المحيطة مُحاولاً التكيف معها، ومع تطوره وإستقراره كون المجتمعات الإنسانية الأولى وبها أصبح أكثر قدرة في التكيف مع البيئة المحيطة، ولقيام هذا الوجود الإجتماعي الذي أنشأهُ الإنسان الأول فقد تطلب منه تفاعل وإستجابة وتغير يتوافق مع المتغيرات البيئية ليتمكن من البقاء فيها(2).

عاش إنسان وادي الرافدين في بيئة ذات مؤثرات طبيعية مختلفة أثرت في سلوكه وطبيعة معيشته، فقد فرضت بيئة السهل الرسوبي تحديات تختلف عن بيئة المنطقة الجبلية لإختلاف طبيعة الأرض والمناخ(3)، ففي هذه الفترة من حياة الإنسان واجهته صعوبات بالغة في محاولة الإستجابة والتكيف أو حتى في السيطرة على البيئة لأن نتاجهُ الفكري والثقافي أتسم بالبدائية والتكوين البسيط، فقد أشار عالم الجغرافية F. Ratzal (1905-1844) إلى “إن الإنسان كالحيوان والنبات في نتاج البيئة وهو في نشاطاته وتطوره وآماله محكوم بها لا يستطيع منها فكاكاً”(4) _أي إن إستجابة الإنسان للمؤثرات البيئية كانت شبه معدومة_ إلا إنه لم يقف موقفاً سلبيا فأخذ يقاوم تارة ويستجيب تارة أخرى لبيئته(5)، فتلك هي البيئة الطبيعية قد واجهت الإنسان بمشكلات كثيرة لعل أهمها وأكثرها حدة الفيضانات والجفاف التي وجهت تفكير الإنسان إلى مقاومتها وإيجاد الحلول المناسبة لردها ومع تطور نتاجهُ الفكري والعقلي أستطاع بناء السدود والسيطرة على الملاحة واهتدى إلى الزراعة وتربية الحيوانات وكان هذا أول رد من قبل الإنسان على البيئة وأول بداية الصراع(6)، لقد تطلب من الإنسان جهوداً كبيرة في التكيف مع البيئة(7)، فتمكن من مقاومة الظروف البيئية الصعبة التي عاشها بمساندة أخيه الإنسان إذ أن الإنسان بمفرده لا يستطيع مواجهة جميع تلك الصعاب وأن يحيط بها جميعها، وبذلك مهدَ إلى ظُهور أُولى التنظيمات الحياتية والإجتماعية في تنظيم الأسرة (العادات والتقاليد والقيم والأعراف والأخلاق) وبداية ظهور أول أنواع الحكم السياسي ونشوء الدولة القوية المركزية(8). ويذكر عالم الجغرافية 1930 Roxby ”  إن الإنسان أستطاع أن يرتبط بعلاقة تفاعلية مع بيئته بعد أن أستطاع أن يكيف نفسه معها ويعدل منها بما ينسجم ومتطلبات حياته ووجه نشاطهُ حسبما يتناسب وهذه الظروف”(9).

وكما حدث في وادي الرافدين حدث في وادي النيل فقد أستطاع المصريون في الإستجابة لظروف البيئة المحيطة وفي التوافق والتكيف معها، لقد تميزت الحضارة المصرية بإمتلاكها أعظم جهاز إداري عرفه التأريخ والذي أستطاع المصريون من خلاله تنظيم العمل ووضع الخطط والاستراتيجيات للتخلص من أثر البيئة المحيطة وبلوغ حالة التوازن معها، فمضى المصريون مثل سكان وادي الرافدين في مواجهة مخاطر الفيضانات وغيرها من المؤثرات البيئية(10).إن ذلك التفاعل الذي حدث بين الإنسان والبيئة على أرض مصر ولإرادة الإنسان في البقاء والتطور والسيطرة على بيئته مرة والتكيف معها مرة أخرى أو بالإستجابة جعلها حضارة عريقة أمتد عمرها على ما يزيد عن  3000سنة(11).

وإذا تأملنا غير حضارة وادي الرافدين والنيل فإننا نجد الحضارة الصينية في الوادي الأدنى من النهر الأصفر، وألفينا إستجابة من جانب الإنسان للتحديات من الأحوال الطبيعية، وربما كانت أشدُ عنفاً من تحدي حضارة النهرين والنيل لإختلاف الأحوال الجوية والمناخية فيها، لقد كوّن الصينيون حضارة عظيمة لتوافر ملكة إبداع دقيقة مكنتهم من التكيف والإستجابة للظروف البيئية ومجابهتهم تحدياً عظيماً(12)، فبدأ الصينيون ينتزعون الأرض ويصدون عنهم الأقوام الهمجية المحيطة بهم وينظفون الأرض للزراعة ويطهروها من الرواسب والأملاح ويقاومون الجفاف والفيضانات وهم بذلك مُشيدوا أعظم حضارة ثابتة عرَفها الشرق الأقصى(13).

وجاورت الحضارة الصينية الحضارة الهندية فهي مثل الحضارات السابقة قد تعرضت إلى تحدي البيئة المحيطة بها، فالهند بلاد فريدة في صفاتها عجيبة في تطور حضارتها فهي تمتاز بتنوع البيئة وكأن كل التنوع والإختلاف الموجود في العالم قد جُمعَ في الهند وهو ما يغري السائح فهي بيئة متناقضات طبيعية، ألا إن إنسان تلك المنطقة في ذلك العصر أستطاع التكيف والموائمة مع صعاب البيئة المحيطة وشيد حضارة عريقة ظل إسمها محط أنظار العالم إلى يومنا هذا، ومما لاشك فيه إن عمق أثر الإنسان في هذه البلاد يرجع إلى قدرته على الإبداع والإستعداد للتغيير والإقتباس من غيرهم الأفكار التي تساعدهم في الأرتقاء والتطور(14).

وإذا تأملنا الحضارة اليابانية فإننا نجد تحدياً من قبل الإنسان إزاء البيئة ليس مختلفاً بالشيء الكثير عن باقي الحضارات ولكنها تميزت بتكيف من نوعٍ مختلف جاء عن طريق العمل وتحمل المسؤوليات الجماعية ووحدة الفكر والعقيدة، وكان للترابط الإجتماعي الذي ساد المجتمع الياباني أثرهُ الكبير في مواجهه الظروف البيئية، ومع ما تميز به الشعب الياباني من إبداع وإبتكار ساعد في التحول السريع نحو التغيير والتكيف مع عناصر البيئة المختلفة(15).

وتعرضت الحضارة اليونانية إلى عدة تحديات منها تحدي البيئة الطبيعية من البحر والتحدي الثاني كان بشرياً أبان الأزمة التي أبرزها الأثينيين لتحدي المجتمع الهليني في القرن الثاني ق.م، فقد بدا رد فعل أثينا ظاهراً بصورة سلبية لأنها لم تستجب للتحدي وأستمرت تقاوم بدور سلبي ثم أنبعث أول رد فعل للقوى المغتصبة واستطاعت في تكيف نظامها التقليدي ليتناسب وأسلوب حياتها الجديد(16).

وأمتد أثر البيئة الطبيعية ليشمل صفات الجنس البشري فقد تكيفت عاداتهم وتقاليدهم وإتجاهاتهم الفكرية والفلسفية مع طبيعة البيئة المحيطة فنجد إختلافها ما بين سكان النهرين والنيل وبين الهند والصين وغيرها من الحضارات، كما أثرت في الصفات الجسمانية والجسدية في الإنسان(17). ومع ذلك فإن الإنسان ليس لديه كل الحرية في تغيير بيئته إذ هي مازالت تضع حدوداً لم يستطع أن يتعداها فحملت البيئة الحاضرة تحدياً من نوع آخر تحدي المغامرات الذهنية والعلم، فقد شهد القرن الثاني عشر تلك التحديات، حيث الأنتعاش والأنتهاء من الحروب الصليبية، وأرتفاع مستوى وسائل الراحة، فهو تحدٍ ضد الجهل والسبات والأوهام والأساطير والخرافات فبدأ مستوى التعليم يشرع في الأرتفاع بين رجال الكنيسة والعلمانيين وكانت فترة القرن الثالث والرابع عشر فتره نمو مدن أوربيه وفترة تكيف جديدة وإستجابة لتحدٍ جديد فكانت إنطلاقة جديدة للفكر والعلم الحديث وبداية العلم التجريبي، وشهد القرن التاسع عشر دراسة موسعه لموضوع التكيف في مجالات علمية مختلفة فأول من بحث في هذا المجال علماء الحياة الطبيعية فتناولوا تطور الإنسان وارتقائه وأثر البيئة فيه، ولعل العالم Darwin أول من تناول هذا الموضوع وفسر حالة التكيف عبر نظرية التطور1859 والذي بيّن أثر العوامل الطبيعية التي تُؤدي فعلها إلى التطور والأرتقاء(18). وفَسّر علماء التأريخ تكيف الإنسان مع بيئته من خلال أستعراض وجوده على الأرض وقدرته في التفاعل والإستجابة وبناء الحضارة الإنسانية(19). وتَنْاول علماء الأنثروبولوجيا قُدرة الإنسان في تكيفه مع البيئة، فقد بينوا أن تكيف الإنسان كان بطيئاً على المستوى البيولوجي مما أعطاهُ فرصه للأرتقاء عن باقي المخلوقات(20). وبَحث علماء الجغرافية موضوع التكيف من خلال تحديد العلاقة بين الإنسان والمناخ والتربة والطبيعة وأثرها في طبائع البشر وصفاتهم كما بحثوا في دراسة العلاقات بين سكان الأقاليم المتباينة بعد أن كيفوا أنفسهم مع ظروف البيئة.(21) ودرس علماء الإقتصاد تكيف نشاط الإنسان الإقتصادي مع البيئة وأثرها في تحديد نوع العمل وطريقة معيشته. وعالج علماء الإجتماع حاله التكيف في تحديد أثر الظروف البيئية على طبائع الناس وتصرفاتهم وعلى عاداتهم وتقاليدهم وفي تطور مجتمعاتهم. وبحث علماء النفس حالة التكيف النفسي للإنسان عَبّر مراحل التأريخ من خلال دراسة سلوكه ومستوى تطور ذكائه. ودرست العلوم السياسية التكيف عبر تطور الصراع بين المجتمعات ليتخذ الشكل العسكري وتوسيع رقعة المجتمع، فضلاً عن دراسة حالة السلم وسيادة الصناعات والحرف. ويأتي التكيف في المنظور الفلسفي بأنه حاله التطور للعلاقة بين الإنسان والبيئة المجهولة لديه ويمثلها هيغل بالروح المطلقة في تطورها وتدرجها في ذاتها فيصف عملية التطور بموقف أولي ثم موقف مضاد ثم موقف مركب ثم موقف جديد للإنطلاق من خلال السيطرة على مجريات العلاقة مع البيئة(22). ودخلت دراسة التكيف في العلوم الإدارية مع بداية دراسة مشكلات العمل وتنظيم أنشطة المنظمة فظهرت مشكلة التكيف السيكولوجي والإجتماعي للأفراد مع بيئة عملهم كما ظهرت مشكلة التكيف الإداري ودراسة سلوك المنظمة وتكيفها مع البيئة الخارجية، ولعل أول من أشار إلى ذلك مدرسة النظم المفتوحة، ومع دخول القرن الثامن والتاسع عشر أفرزت الخبرة الإنسانية عن تولد مرحلة جديدة للبشرية وإستجابة سريعة لهذا التطور التقدمي الذي نقل الإنسان لمرحلة تكيفيه جديدة ساعدهُ في الإرتقاء درجات أعلى، فمنذ ظهور الثورة الصناعية لم تكف بيئة العمل عن التغير وبسرعة كبيرة ومتزايدة والتي فرضت على العامل إستجابة من نوع آخر في عالم حركة وبحث وتطور وظهور مؤثرات بيئية مختلفة ومنافسات سواءٍ في بيئية العمل أم في البيئة الخارجية